لمفهوم الصحيح للصبر ومتى يكون نافعا للداعية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله، نبينا محمد وآله وصحبه وبعد.

فإنَّ الابتلاء سنةً من سنن الله عز وجل في عباده، بل إنَّ الله تعالى لم يخلق العباد إلاَّ ليبلوهم ويختبر إيمانهم، قال تعالى: ((الَّذِي خَلَقَ المَوتَ وَالحَيَاةَ لِيَبلُوَكُم أَيٌّكُم أَحسَنُ عَمَلاً وَهُوَ العَزِيزُ الغَفُورُ)) (الملك: 2).

ومن رحمةِ الله عز وجل بعباده، أن خلقَ فيهم ما يُدافعون به البلاء، وحثهم على التخلق به، ووفق من شاءَ من عباده إلى التحلي بهذا الخلق العظيم، ألا وهو الصبر، الذي لا يستطيعُ العبد أن يفعل ما أُمِرَ به، ويترك ما نُهِيَ عنه، ويصبر على أقدار الله المؤلمة إلا به.

ويتفاوت الناسُ تفاوتاً عظيمًا في التحلي بهذا الخلق الكريم، ما بين الضعف والقوة، وبه يتباين إيمانُ الناس وثباتهم، لأنَّ الناس في الرخاءِ سواء، ولكنهم يتباينون في الشدة حسب قوة الصبر وضعفه في قلوبهم.

والصبر وإن كان لا غنى عنه لعبدٍ, كائنًا من كان، حتى يصح إسلامه لله عز وجل، بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والصبر على أقداره المؤلمة، لكنَّه في حقِّ الدعاة والمجاهدين في سبيل الله عز وجل أشدَّ حاجةً، و آكد في حقهم من غيرهم، وذلك لما يتعرضون له من بلاءٍ, ومحنةٍ,، وصدٍ, عن سبيل الله عز وجل من قبل الظالمين وأعداء الدين، وعندما نتحدثُ عن الصبر الممدوح صاحبه، فإننا نتحدثُ عن الصبر الاختياري، الذي يمنعُ صاحبه من التسخط والجزع، ويمنح صاحبهُ الرضا والاطمئنان، وهذا هو الصبر الذي يُثاب عليه العبد، ويصدق عليه قول الله تعالى: ((إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ,)) (الزمر: 10).

ولا ينافي هذا مدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره التي أذن بها لعباده.

والصبر كغيره من الأخلاق، يكتنفه خلقان ذميمان، والممدوح منه وسطٌ بينهما، فهو وسط بين طرفين: طرف التفريط المؤدي إلى الضعف والذلة والمهانة، والجزع والتسخط، وطرف الإفراط المؤدي إلى القسوة والتهور، العجلة في الأمور قبل أوانها، وفي الوسط بينهما يقع الصابر المستقيم، الذي لم تدفعهُ المصائب والابتلاءات إلى الضعف والخور والجزع، وفي المقابل لم تدفعهُ بضغوطها وشدتها إلى العجلة والتهور، والقسوة المخالفة لقواعد الشريعة ومقاصدها.

وفي هذا يقولُ الإمامُ ابن القيم رحمه الله تعالى: ((وكل خلقٍ, محمود مكتنفٌ بخلقين ذميمين، وهو وسط بينهما. وطرفاه خلقان ذميمان...فإنَّ النفس متى انحرفت عن التوسط، انحرفت إلى أحد الخلقين الذميمين ولابد، فإذا انحرفت عن خلقِ »الصبر المحمود« انحرفت إما إلى جزعٍ, وهلع، وجشعٍ, وتسخط، وإما إلى غلظةِ كبد، وقسوةِ قلب، وتحجر طبع... « ([1]).

وهُنا سؤالٌ مهمٌ يتعلق بالصبر، ألا وهو:

متى يكون الصبر نافعاً لصاحبه؟! ولماذا يضعفُ صبر أكثر الناس ولا يثبت منهم إلاَّ القليل؟

والجوابُ على هذه المسألة المهمة، يمكن أن نفهمهُ من الكلام التالي للإمام ابن القيم رحمه الله تعالى حيث يقول: وهو أي الصبر على ثلاثة أنواع: صبٌر بالله، وصبر لله، وصبرٌ مع الله.

فالأول: الاستعانةَ به، ورؤيته أنَّهُ هو المصَبِّر، وأن صبر العبد بربه لا بنفسه، كما قال تعالى: ((وَاصبِر وَمَا صَبرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ)) (النحل: 127) يعني إن لم يصبرك هو لم تصبر.

والثاني: الصبر لله: وهو أن يكون الباعث له على الصبر محبةُ الله، وإرادة وجهه، والتقرب إليه، لا لإظهار قوة النفس، والاستحماد إلى الخلق، وغير ذلك من الأعراض.

والثالث: الصبر مع الله، وهو دوران العبد مع مُراد الله الديني منه، ومع أحكامه الدينية. صابرًا نفسه معها، سائرًا بسيرها، مقيمًا بإقامتها، يتوجه معها أين توجهت ركائبها، وينزلُ معها أين استَقَلَّت مضاربها.

فهذا معنى كونه صابرًا مع الله، أي قد جعلَ نفسهُ وقفًا على أوامره ومحابه، وهو أشدٌّ أنواع الصبر وأصعبها، وهو صبرُ الصديقين. [2] أ. هـ.

من هذا النقل النفيس يتبينُ لنا أنَّهُ لكي يستقيم العبد في صبره، ويثبت ولا يميل عن الصبر الممدوح ذات اليمين أو ذات الشمال، فلا بُدَّ من شروطٍ, ثلاثة يجبُ أن تتوفر في الأمر المصبور عليه، حتى يثبت العبد، ويفوز بأجر الصابرين.

وما خذل عبد في أمر من الأمور، وضعف ثباته وصبره فيه، إلاَّ بتخلفٍ, واحد أو أكثر من هذه الشروط، وملخصها كما سبق ما يلي:

* أن يكون الصـبرُ بالله تعالى: وذلك بالتبرؤ من الحولِ والقوةِ والاعتراف بالضـعف والضياع، فيما لو وكلَّ العبد إلى نفسـه، وهذا يُؤكدُ الاستعانة التامة بالله عز وجل، وأنَّهُ سبحانه هـو المصبِّر ولولاه لـم يصبر الصابرون، ويثبت الثابتون، وفي هذا إشـارةٌ إلى ضـرورة الدعاء والتضـرع لله عز وجل، وسـؤاله الصـبر والثبات. كمـا قال أصحاب موسى عليه السلام: ((رَبَّنَا أَفرِغ عَلَينَا صَبراً وَتَوَفَّنَا مُسلِمِينَ)) (الأعراف: 126).

* أن يكون الصبُر لله عز وجل، وابتغاءَ وجـههِ الكريم، لا لغرضٍ, من أغراض الدنيا الفانية، ولكن لإرادةِ الآخرة، وتوفيت الأجر من الله سبحانه هنالك.

* أن يكون الأمرُ المصبور عليه مُرضيًا لله عز وجل، وذلك بموافقته لما جاءَ به الرسول صلى الله عليه وسلم.

 

----------------------------------------------------------------

[1] مدارج السالكين 2 / 310 (باختصار).

[2] مدارج السالكين 2 / 157.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply