قال أهل اللغة: التبسم مباديء الضحك، والضحك انبساط الوجه حتى تظهر الأسنان من السرور، فإن كان بصوت وكان بحيث يسمع من بعد فهو القهقهة وإلا فهو الضحك، وإن كان بلا صوت فهو التبسم، وتسمى الأسنان في مقدمة الفم الضواحك وهي الثنايا والأنياب وما يليها وتسمى النواجذ.
وبعض الناس يطلق على نوع من الابتسامات: ابتسامة صفراء لأنها لا تنم عن سرور وإنما هي عن غضب أو خديعةº ولذا يقول الشاعر العربي:
إذا رأيت نيوب الليث بارزة *** فـلا تظنن أن الليث يبتسم
وحديثي ليس منصباً على تفصيل في أنواع الابتسامات، وإنما هو عن حاجة المسلم إلى ابتسامة أخيهº ليدخل في نفسه السرور والطمأنينةº فإن للابتسامة أثراً كبيراً في النفس البشرية، فهي تبعث إشراقة الدفء والحب إلى الإنسان، كما أنها وسيلة حية للتعبير عما يجول في خاطر الإنسان تجاه أخيه من رضى أو عدمه، فلو فكر الإنسان كم ستكلفه تلك الابتسامة التي يرسمها على محياه عند لقياه شخصاً آخر؟
فسيكون الجواب: لاشيء، بل على العكس سوف يكسب بها أجراً يصدق ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: \"وتبسمك في وجه أخيك صدقة\" رواه الترمذي، وفي الحديث الذي أخرجه البزار والطبراني في الأوسط من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن تبسمك في وجه أخيك يكتب لك به صدقة)، وقوله - صلى الله عليه وسلم - من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - (لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تلقى أخاك بوجه طليق) رواه مسلم.
والوجه الطليق هو الوجه المبتسم غير المتجهم.
ثم لو فكر الإنسان مرة أخرى كم ستستغرق منه هذه الابتسامة، وكم ستقتطع من وقته، لوجد أنها لن تستغرق أكثر من لمح البصر، ولكن ذكراها تبقى إلى آخر العمر، ولن تجد أحداً من الغنى بحيث يستغني عنها، إنها تشيع السعادة في البيت، وتطيب الذكر في العمل، وهي التوقيع على ميثاق المحبة بين الأصدقاء.
وإننا لو طبقنا ذلك على موقف واحد من مواقف حياتنا المتكررة لأدركنا البعد النفسي الذي تحدثه هذه الابتسامة، فبها تبتعد الوحشة عن الناس، وتزول الغربة عنهم، وتتفتح القلوب من أجل صداقة جديدة، إن لم تكن معرفة عابرة لها في الذاكرة صورة طيبة يرتاح لها عند رؤيتها، وتطيب نفسه في تذكرها، وكأنك أعطيته كل ما تملكº ولهذا يقول الجاحظ: (من قابلني ضاحكاً وإن لم يُقرني - أي يضيفني - فكأنه أضافني الدهر كله).
ألا ما أعظم أثر الابتسامة في نفوس الناس فمن يبذلها رخيصة وما أرخصها فكم ستكلف؟ إنها تكلف السيطرة على النفس وكسر حدة جبروتها.
أكد بعض الباحثين: أنه إذا أراد الإنسان أن يصل الود بينه وبين الناس فإن طريقها البسمة وحدها، أما الكاتب الاجتماعي الأمريكي الشهير (دايل كارنيجي) في كتابه المعروف: (كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس)، فيقول: (إن قسمات الوجه خير معبر عن مشاعر الصحبة، فالوجه الصبوح ذو الابتسامة الطبيعية الصادقة خير وسيلة للكسب، وإنها أفضل منحة يقدمها المرء إلى غيره) ثم يقول: (إن الابتسامة المشرقة ذات أثر سري عجيب في نفوس الناس، وهي لا تكلف شيئاً، ولكنها تعود بخير كثير، وهي لا تفتقر من يمنعها مع أنها تبهج من يأخذها، وهي لا تستغرق سوى لحظات تبقى ذكرى حلوة إلى أمد بعيد).
وقد لا أقول جديداً إذا قلت: إن الابتسامة الحلوة المنبعث شعاعها من القلب النقي هو أقوى سلاح للدخول إلى أعماق الأشخاص، فالضحك والابتسامة قوة تجدد النفس، وتبعث نور الدفء إلى القلب وتجعله ينسى متاعبه ولو للحظات تجلو النفس وتستعيد أنفاسها، وتبعث بأريجها الفواح معطراً إلى من حولها، وقد قيل لأحد الأشخاص: ليكن وجهك باسماً، وكلامك ليناً، تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم الذهب والفضة.
وقد أعجبتني أبيات للشاعر المهجري إيليا أبي ماضي تتحدث عن الابتسامة، يقول فيها :
قـال: الـسماء كـئيبة وتـجهما *** قلت: ابتسم يكفي التجهم في السما
قـال: الـتجارة في صراع هائل *** مـثل الـمسافر كـاد يقتله الظما
أو غــادة مـسـلولة مـحتاجة *** لـدم وتـنفث كـلما لـهثت دما
قـلت: ابتسم، ما أنت جالب دائها *** وشـفائها فـإذا ابـتسمت فربما
قال: العدى حولي، علت صيحاتهم *** أأسُـرٌّ والأعداء حولي في الحمى
قـلت: ابـتسم لم يطلبوك بذمهم *** لـو لـم تكن منهم أجل وأعظما
قـال: الـمواسم قد بدت أعلامها *** وتعرضت لي في الملابس والدمى
وعـلي لـلأحباب فـرض لازم *** لـكنَّ كـفي لـيس تملك درهما
قـلت: ابتسم، يكفيك أنك لم تزل *** حـياً، ولـست من الأحبة معدما
أتُـراك تـغنم بـالتبرم درهـما *** أم أنـت تـخسر بالبشاشة مغنما
يا صاح لا خطرٌ على شفتيك أن *** تـتلثما، والـوجه أن يـتحطما!
قـال: الـبشاشة ليس تسعد كائناً *** يـأتي إلـى الدنيا ويذهب مرغما
قـلت: ابتسم مادام بينك والردى *** شـبر، فـإنك بـعد لـن تتبسما
أخي المبارك: لماذا لا نقابل الناس بابتسامة حلوة ووجه ضاحك ندخل من خلالهما السرور في نفوسهم، فإننا بذلك نستطيع أن ندخل إلى غياهب من نقابلهم بدون أي حواجز أو حدود، لماذا نفتقدها سلوكاً ممارساً بين أفراد المجتمع المسلم، أليس من سمات ديننا الحنيف؟ بلى والله!
إن الوجه المبتسم يزيل عن أخيك الكثير من المعاناة والمشاكل والمتاعب، في حين أن الوجه العبوس يبعث الشؤم والقلق وضيق النفس، ولاغرو فكثير من العلاقات الشخصية قد بنيت في بداياتها على ابتسامة واحدة، وذلك يدعونا إلى أن نمارس هذه الابتسامة على من نعرفهم ومن لا نعرفهم، فالحديث الشريف يدعونا إلى أن نسلم على من عرفنا ومن لم نعرف، وعلى السلام تقاس الابتسامة، فهي جواز سفر تستطيع من خلاله الدخول إلى نفس من تريد دون تفتيش أو أختام.
أخي الحبيب: على كل منا أن يتعلم فن الابتسامة ويجيدها، ويحاول أن يجعلها سلوكاً مشاعاً لكل الناس، فإنها لا تكلف شيئاً، بل إنها تزيد من رصيدك من الأصدقاء والمحبين، وترفع شأنك الاجتماعي بينهم، فالابتسامة تصنع المعجزاتº لأن الابتسامة الحقيقية غير المتصنعة أو المفتعلة تزهو من النفس على الشفاه، والبسمة تفتح آفاق العمل الخلاق، وتفتح أبواب المحبة والنجاح والسلام بين القلوب، فالوجه المبتسم وجه جميل محبوب، فمن الابتسامة يأتي جمال النفس.
وأخيراً أقول:
تـبسم بوجه المرء تكسب وُدَّه *** فليس طليق الوجه يشبه عابسَه
فأحي وجوه الناس مبتبسماً لهم *** كماءٍ, جرى سحَّاً بأرض يابسَه
فـتزدان هاتيك الحدائق نضرة *** فتضحي عروساً كلَّ لونٍ, لابسَه
فابتسم ودرِّب شفتيك على الابتسامة تستولي على القلوب قبل الأجسام، فالابتسامة عنوان التفاؤل ورمز الصفاء، وأسمى لغة للتعبير بصدق الإحساس عن الارتياح والرضا والشعور بالانشراح، فالابتسامة هي اللغة الوحيدة التي لا تحتاج إلى ترجمة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد