الحمد لله وكفى، والصلاة والسلام على عباده الذين اصطفى، أما بعد:
فلا تزال وقفات المقال متصلة مع سورة يوسف - عليه السلام -.
ووقفتي الساعة مع قول الله - تعالى- فيها مخبراً عن نبيه: ((قَالَ اجعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ))(يوسف:55)، وهنا وقف المفسرون - رحمهم الله - وبحثوا: هل يجوز أن يطلب الإنسان الولاية كما طلبها يوسف، ثم فرّعوا عليها، هل يجوز لنا نحن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - أن تطلب الولاية كما طلبها يوسف؟ فذكروا الخلاف في ذلك، فبعضهم قال: لا يجوز، وإنما كان هذا شرع من قبلنا، وبعضهم قال: بل يجوز.
ولكني عندما تأمّلت المشهد، وعشت معه بدا لي أن يوسف - عليه السلام - لم يطلب الولاية - فضلاً عن أن نفرّع عليها ما بعدها -، ولا شك أن ما قاله بعض المفسرين له مكانه من الاعتبار والنظر، ولكن ما بدا لي من خلال استقراء النصوص قد يخالف ذلك.
فإن الملك قال ليوسف - عليه السلام - عندما مثل أمامه: ((إِنَّكَ اليَومَ لَدَينَا مَكِينٌ أَمِينٌ))، فكأن يوسف هنا لم يبدأ الطلب بل كأنه قال له: إذا كنت تريد أن توليني ولاية فاجعلني على خزائن الأرض، فأنا لا أريد مناصب فخرية، لا أريد قصوراً، إنما أريد عملاً ينفع الأمة، وينبني على ذلك اختيار أن يوسف لم يطلب الولاية ابتداءً وإنما اختار نوعها لا أصلها، وفرق بين الأمرين، وهذا الذي ظهر لي فالله أعلم.
وهنا يأتي سؤال مهم جداً: لماذا اختار يوسف أن يكون على الخزائن دون غيرها؟
والجواب:
أولاً: أنها من أرفع الولايات، وهي ولاية العزيز - كما ذكر المفسرون -، ومن خلالها يستطيع أن يحكم ويأمر وينفذ ما استطاع من شريعة الله.
ثانياً: أنها هي الولاية التي تناسب مؤهلات يوسف: (( إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ))(يوسف: من الآية55)، وهذا هو التخصص.
ثالثاً: أن لها الأثر العظيم على الناس - وبخاصة أيام الشدائد -، حيث تتعلق بجانب المال، ولذلك فإن وزير المالية في أي وزارة له مكانة خاصة، حيث يرتبط مع مصالح الناس، ومن خلالها يستطيع أن يؤدي رسالة ربه.
رابعاً: أنه عرف واقع ذاك البلد وما يحدث فيه من ظلم، والدليل على ذلك أنه سُجن ظلماً، والبلد مقبل على أزمة، وقلّ من يعدل أيام المحن وبخاصة في جانب المال، فكانت تحتاج إلى الحفيظ العليم الأمين.
فبمجموع هذه الأمور يتضح أن هذه الولاية قد تكون من أعظم وسائل تبليغ الدعوة ((اجعَلنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرضِ)) لارتباط الناس بالمال، وأثر المال في حياة الناس.
وهذه حقيقة ينبغي أن يعيها من مَنّ الله عليه بالمال، وجعله على شيء من الخزائن العامة أو الخاصة، فليتق الله فيما وَلي، وليتذكر قول نبيه - صلى الله عليه وسلم -: (إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلاّ من قال هكذا وهكذا وهكذا، عن يمينه ومن شماله ومن خلفه، وقليل ما هم )[البخاري وغيره].
جعلني الله وإياكم منهم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد