ابني الحبيب، يؤسفني أن تكون هذه الرسالة هي وسيلة المخاطبة بيني وبينك، ولكنها الوسيلة الوحيدة المتوفرة لديّ والتي تسمح لي بإخبارك بأمور لابد أن تسمعها مني قبل أن أغادر الحياة، فأنا منذ أن احتلت عليّ وأدخلتني هذا المكان رغماً عني لم أرك إلا في مرات قليلة، لذا فأنا الآن سأتكلم وأنت ستسمعني ولن تستطيع أن تقاطعني.
ابني الحبيب، عندما تصلك رسالتي أكون قد فارقت الحياة ولعلك لن تقرأ هذه الرسالة أبداً، ولذلك رأيت أن أنشرها عبر صفحات المجلة حتى يقرأها غيرك ويكون عندئذ كل ابن عاق هو ابني...
يا بني، إنني أشعر بأنني سأموت قريباً، فلقد أبلغني الطبيب أن وضعي الصحي يزداد تدهوراً... وأن إصراري على عدم أخذ الدواء قد أحوجني إلى كمية كبيرة من الدم... حاولت عندئذ أن أتمسك بموقفي الرافض للعلاج... ولكن إصرار الطبيب دفعني للموافقة لأنني مؤمنة بأن كميات الدم لن تعيد نبضات الحياة إلى قلبي وروحي... إذ إني أرى في هذه اللحظات أجنحة ملك الموت وهي ترفرف داخل غرفتي.
يا بني، لا تحسب أني بكلامي هذا أسعى إلى استدرار عطفك كي تأتي إليّ، لا، ليس هذا هدفي ومرادي، فلقد كانت وصيّتي لحامل الرسالة أن لا يسلمك إياها إلا بعد مفارقتي للحياة، لأنني أعلم أنني ما دمت حيّة فإنك لن تقرأها، ولكن ربما فعلت ذلك بعد موتي لعلمك أن هذه القراءة لن يترتب عليها أية تبعات أو مسؤوليات... ولكن هذا لا يعني أني لا أتمنى أن أنظر إليك النظرة الأخيرة قبل أن أموت، ليس فقط لأني اشتقت إليك... ولكن أيضاً لأمور أخرى عديدة...
منها أولاً أني لا أريد أن أقضي آخر لحظات عمري وحيدة مع مخاوفي وأفكاري، بل أتمنى كما يتمنى أي مسلم- أن أجد في تلك اللحظات من يحترم إنسانيتي ويهتم بأمري، يحوّل وجهي إلى القِبلة، يلقنني الشهادة، يدعو لي بالرحمة... فهل اطلب الشيء الكثير إذا تمنيت أن أحظى بحقي الشرعي الذي ضمنه لي الإسلام... إن المعاناة من الوحدة التي لحظتها على كثيرات ممن متن قبلي في هذا المكان دفعني إلى أن أتمنى ما تمنيت...
إن الموت في هذا المكان لا قيمة له... إذ إن المريض ليس سوى سرير يفرغ في اليوم الأول ليملأ في اليوم الثاني من قبل مريض آخر ينتظر دوره على لائحة الانتظار! لذا لم يكن حزني كبيراً عندما كنت أبلغ عن موت إحدى النزيلات، إنما حزني الأكبر كان عندما أعلم بأنها كانت في تلك اللحظات وحيدة، لا يوجد بجانبها أنيس يقرأ لها القرآن ولا حبيب يذرف عليها دمعة أسى وحزن... اللّهم إلا دمعة رفيقة من رفيقات الدرب الحزين...
منها ثانياً أني أريد أن أسامحك... وهذا الأمر لا أستطيع أن أفعله إذا لم تأت إليّ ودموع الندم تبدو على وجهك وتقول لي: \" سامحيني يا أمي \"... أتدري لو فعلت هذا فسأنسى كل الماضي، وسأدعو الله أن يغفر لك كل ما فعلته بي، وسأتضرع إليه - سبحانه - ألا تكون آخرتك مثل آخرتي... ولكني متأكدة أنك لن تفعل... ولن تأت... لذا لا تنتظر مني يا بني أن أسامحك... لأنني حتى لو فعلت فإني لا أضمن لك ألا يطالك العقاب ممن لا يسهو ولا ينام.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد