الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله:
أولى الإسلام الحنيف علاقة الولد بوالديه كبير اهتمامه، وعميق عنايته، بل خصها من ذلك بما ميّزها عن سواها من مفردات المنظومة الاجتماعية، ووضع لها أسساً وقواعد رصينة تستوعب كل جزئياتها، وتشيد منها نظاماً اجتماعياً وأخلاقياً فاضلاً متكاملاً.
إن المتتبع للنصوص الواردة عن رسول الله الأكرم - صلى الله عليه وآله وسلم - في هذا المضمار، يجوب أفقاً واسعاً حاشداً بالتوجيهات السديدة، والإضاءات الكاشفة الهادية إلى مشارع الحق، وسواء سبيل الرشد والصواب.
ولا تفوتنا الإشارة ـ وهي جديرة بالذكر ـ أن القرآن الكريم قد عُني أي عناية ببيان هذه الحقيقة، وإبراز ما لها من دور بالغ، وقيمة مثلى، في تكوين الصرح الأخلاقي في هيكل الشريعة الإسلامية المقدسة، وأجلى أوجه تلك الحقيقة في وحي الله المبين، أن المولى- تبارك وتعالى -قد قرن أمر توحيده بأمر بر الوالدين والإحسان إليهما في موارد قرآنية عدة بلغت أربعة موارد، كقوله - تعالى -: (وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً) وضمّ لزوم شكرهما إلى وجوب شكره في قوله - تعالى -: (ووصينا الإنسان بوالديه.... أن اشكر لي ولوالديك) وذلك واضح في دلالته على كبير حقهما وحرمتهما في نظر الشارع.
فعن أبي أمامة أن رجلاً قال: «يا رسول الله، ما حق الوالدين على ولدهما؟ قال: هما جنّتك ونارك».
وعنه - صلى الله عليه وسلم -: «من سرّه أن يمدّ له في عمره ويزاد في رزقه فليبرّ والديه، وليصل رحمه».
وعن عبد الله بن مسعود قال: «سألت رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها. قلت ثم أي؟ قال: بر الوالدين».
يعبر هذا النص النبوي عن حقيقتين كبيرتين، فكما أن أفضل العلائق الإيمانية التي تربط الإنسان بربه وتشده إليه هي الصلاةº لما فيها من توجّه مباشر ومستمر إلى الله - عز وجل -، وانقطاع كامل عن كل ما سواه، كان أمثل الروابط الاجتماعية، وأولاها باحترام الإنسان وعنايته، هي صلته بوالديه، فهما أحق الناس ببره وإحسانه.
وجاء إليه - صلى الله عليه وآله وسلم - رجل فقال: «جئتك أبايعك على الهجرة، وتركت أبويّ يبكيان، فقال: ارجع إليهما فأضحكهما كما أبكيتهما».
وعنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «أنه أتته أخت له من الرضاعة، فلما أن نظر إليها سرّ بها وبسط رداءه لها فأجلسها عليه، ثم أقبل يحدّثها ويضحك في وجهها ».
وعنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «رضا الله في رضا الوالد، وسخط الله في سخط الوالد».
قال علي كرم الله وجهه: «برّ الوالدين من أكرم الطباع».
إنما كان بر الوالدين من أكرم طباع المرءº لما فيه من الوفاء لهما، وشكرهما على معروفهما، وجزاء إحسانهما بمثله، ولا ريب أن تلك الخصال من مكارم أخلاق الإنسان، بل من أكرمها.
ومن دعاء الإمام زين العابدين لأبويه: «اللهم اجعلني أهابهما هيبة السلطان العسوف، وأبرهما برّ الأم الرؤوف، واجعل طاعتي لوالدي وبري بهما أقرّ لعيني من رقدة الوسنان، وأثلج لصدري من شربة الظمآن، حتى أوثر على هواي هواهما، وأقدّم على رضاي رضاهما، وأستكثر برهما بي وإن قل، واستقل بري بهما وإن كثر. اللهم خفض لهما صوتي، وأطب لهما كلامي، وألن لهما عريكتي، وأعطف عليهما قلبي وصيرني بهما رفيقاً، وعليهما شفيقاً».
وعن الإمام الصادق - رحمه الله - في قوله - تعالى -: (وبالوالدين إحساناً) قال: «الإحسان أن تحسن صحبتهما، وألا تكلفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين».
وجاء في بعض الآثار: وأمر الله - عز وجل - بالشكر له وللوالدين، فمن لم يشكر والديه لم يشكر الله.
بر الوالدين وإن كانا فاجرين:
إن ما جعله الله - عز وجل - للأبوين من حق لازم في عنق ولدهما، لا ينتفي بانتفاء إسلامهما أو إيمانهماº لأن ما للوالدين ثابت لهما بالأصالة، ولا يخرجه عن دائرة اللزوم شيء آخر، وإن كان هو الخروج من ربقة الملة المطهرةº وذلك أنهما ينفقان من أرواحهما وأعمارهما على ولدهما برين كانا أو فاجرين، وهو ما يستدعي كل ذلك الحق لهما، إلا أن يكون طاعة لهما في غير مرضاة الله - تعالى -، فإنه «لا طاعة لهما في معصية الخالق».
ـ قال جعفر الصادق: «ثلاث لم يجعل الله - عز وجل - لأحد فيهن رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر. والوفاء بالعهد للبر والفاجر، وبر الوالدين برين كانا أو فاجرين».
بر الوالدين بعد موتهما:
لا يتم بر الولد بوالديه حتى يواظب على صلتهما بعد موتهما، فليس من الوفاء لهما أن ينقطع عن ذكرهما وإيصال ما ينفعهما من عمل صالح بعد خروجهما من دار الدنيا، بل حفظ ما لَهُ صلة بهما، حتى وإن كان ذلك براً بصديق لأحدهما.
ويلفت عناية المستقرئ لمفردات هذا الباب أن البار لا يكتب له بره حتى يدوم ذلك منه في حالي الحياة والموت لهما. أما العاق فقد يكتب باراً إذا ندم على عقوقه في حياة والديه، ووصلهما بعد موتهما بما يكون براً بهما وإحساناً لهما.
قال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «سيد الأبرار يوم القيامة رجل برّ والديه بعد موتهما».
ومن وصية له - صلى الله عليه وآله وسلم - لرجل: «ووالديك فأطعهما وبرهما حيّين كانا أو ميتين».
وعن أبي سعيد الساعدي قال: «بينا نحن جلوس عند رسول الله إذ جاء رجل من بني سلمة، فقال: يا رسول الله، هل بقي من برّ أبويّ شيء أبرهما به بعد موتهما؟ قال: نعم، الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنقاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلاّ بهما، وإكرام صديقهما».
حظيت الأم بنصيب وافر من اهتمام المشرع الحكيم، وظفرت بعناية خاصة بتأكيده حقها، وإفرادها بالذكر، سواء كان ذلك في نطاق الوحي القرآني الشريف، أو ضمن إطار السنة المعصومة المطهرة، «ووجه الفضل ظاهر لكثرة مشقتها وزيادة تعبها». ويكفي لذلك بياناً قوله - تعالى -: (ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً).
جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «يا رسول الله، من أبرٌّ؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أمك. قال: ثم من؟ قال: أباك».
وعنه - صلى الله عليه وآله وسلم -: «الجنة تحت أقدام الأمهات».
وعن سعيد بن المسيب قال: «قال عمر: كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - على جبل، فأشرفنا على وادٍ, فرأيت شاباً يرعى غنماً له أعجبني شبابه، فقلت: يا رسول الله، وأي شاب لو كان شبابه في سبيل الله! فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: يا عمر. فلعله في بعض سبيل الله وأنت لا تعلم، ثم دعاه النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: يا شاب، هل لك من تعول؟ قال: نعم. قال: من؟ قال: أمي، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم -: الزمها فإن عند رجليها الجنة».
وعن معاوية بن جاهمة أن جاهمة جاء إلى النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال: «يا رسول الله، أردت أن أغزو، وقد جئت استشيرك، فقال: هل من أم؟ قال: نعم. قال: فالزمها، فإن الجنة عند رجليها.
وقال رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم -: «من الكبائر شتم الرجل والديه. يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه. ويسب أمه فيسب أمه».
وعنه - صلى الله عليه وآله وسلم - في قول الله - تعالى -: (إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما) قال: «هو أدنى الأذى حرّمه الله وما فوقه».
قال جعفر الصادق في الآية: «إن أضجراك فلا تقل لهما أف، ولا تنهرهما إن ضرباك».
وعنه قال: «أدنى العقوق أفّ، ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه».
وعنه أيضًا في قول الله - عز وجل -: (واخفض لهما جناح الذل من الرحمة) قال: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلاّ برحمة ورقة، ولا ترفع صوتك فوق أصواتهما، ولا يدك فوق أيديهما، ولا تقدّم قدامهما».
وعن الحكم قال: «قلت لأبي عبد الله: إن والدي تصدق عليّ بدار ثم بدا له أن يرجع فيها...فقال: بئس ما صنع والدك، فإن خاصمته فلا ترفع عليه صوتك، وإن رفع صوته فاخفض أنت صوتك».
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد