القارئ للسيرة بوعي، يبدو له بوضوح، أن الله جلّت قدرته كان يُعِدّ محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - لأمر عظيم. وهذا الإعداد هو إرهاص من إرهاصات النبوة، ودليل من دلائلها، عند ذوي العقول والنهى.
وقد يقول قائل: إنما عُرف ذلك بعد أن ابتعث الله محمداً - صلى الله عليه وسلم -، وأكرمه بالوحي والرسالة، ولم يكن معروفاً ولا مستبيناً قبل ذلك.
وليس هذا القول بعيداً عن الصواب، فإن الإعداد السابق إنما عرفه الناس في الزمن اللاحق. غير أن هذا الإعداد السابق المبكّر كان يتراءى قبل البعثة لنوع منَ الرجال قد عرفوا محمداً - صلى الله عليه وسلم - عن قرب، وعايشوه عن كثَب. وكانت نظرتهم إلى مستقبل أيامه نافذة سبّاقة.
فهذا عبد المطلب، جدٌّ النبي - صلى الله عليه وسلم -، يُجري الله على لسانه ما يؤيد هذا المعنى، إذ يقول لمن أرادوا منع محمد - صلى الله عليه وسلم - وكان صبياً دون الثامنة من القعود في مجلس الجدّ، على فراشه عند الكعبة، وهو مجلس كان يحظى باحترام كبير، ولم يكن يسمح لأحد بالقعود فيه: (دعوه، فإن لابني هذا شأناً)، إنها شفافية الروح وعمق المعرفة بالحفيد، مما جعل الجد يرى ما غاب وخفي عن الآخرين.
إن العناية الإلهية، والإعداد الرباني المميز، والرعاية الخاصة، إن خَفيَت على فريق من الناس، لا بد أن تظهر لفريق آخر، سَمَت مداركهم فوق مدارك غيرهم، وقويت فراستهم، فبان لها ما استتر عن عامة الناس.
لقد كانت الإرهاصات في سنّ مبكرة إلى حد يلفت النظر ويسترعي الانتباه. فقد نجا عبد الله والد الرسول - صلى الله عليه وسلم - من الذبح، وفداه أبوه عبد المطلب بمائة ناقة حتى قال - صلى الله عليه وسلم -: \" أنا ابن الذبيحين\". ويعني بالذبيحين إسماعيل بن إبراهبم - عليهما السلام - ووالده عبد الله.
ثم يأتي ما حدّثت به أمه آمنة بنت وهب، من خِفّة حمله - صلى الله عليه وسلم -، وأنها رأت قبل وضعه نوراً خرج منها أضاءت له قصور الشام، مع وصيّة أن تسمّيَهُ \"محمداً \". ولم يكن هذا الاسم شائعاً بين العرب...وغير ذلك من عجائب حمله ووضعه - صلى الله عليه وسلم -.
ثم تتتابع الإرهاصات، فما إن تأخذه حليمة حتى يدر ثديها على الرغم من الجوع ومشقة السفر، ويشبع - صلى الله عليه وسلم - وأخوه (من الرضاعة) من لبنها، ولم يكن ذلك الأخ يتوقف عن البكاء من قلة اللبن وشدة الجوع.
وفي الطريق إلى بادية بني سعد تسبق أتانُ حليمة الرّكبَ وقد كانت في طريقها إلى مكة عرجاء لا تكاد تقدر على السير. وفي مضارب بني سعد يتدفق الخير وتتنزل البركة فتشبع غنم حليمة وتسمن وتحفَل ضروعها باللبن، بينما غنم غيرها جائعة ما تبض بقطرة.
وتمتد سلسلة الإعداد والعناية دونما انقطاع. أليس فيما رواه مسلم عن أنس - رضي الله عنه - مِن شَقّ صدره - صلى الله عليه وسلم - وإخراج حظ الشيطان منه، وهو في بادية بني سعد إلماحٌ إلى هذه العناية، وإيحاء إلى ذلك الإعداد؟!
إن تعدد الحوادث وكثرة الإرهاصات يجعل الأمر واضحاً لا يكاد يخفى إلا على من تبلّدَ إحساسهم، وثقلت أرواحهم.
وهذه حلقة أخرى من سلسلة الإعداد، فقد جاء في كتب السيرة والحديث النبوي الشريف أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: \" ما هممت بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين. كل ذلك يحول الله بيني وبينه، ثم ما هممت به حتى أكرمني الله برسالته. قلت مرة للغلام الذي يرعى معي بأعلى مكة: لو أبصرتَ لي غنمي حتى أدخل مكة، وأسمر بها كما يسمر الشباب. فقال: أفعلُ. فخرجتُ حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً. فقلت: ما هذا؟. فقيل: عرس فلان بفلانة. فجلست أسمع، فضرب الله على أذني فنمت فما أيقظني إلا حر الشمس فعدت إلى صاحبي، فسألني فأخبرته.
ثم قلت ليلة أخرى مثل ذلك. ودخلت مكة، فأصابني مثل أول ليلة. ثم ما هممت بعدها بسوء \"
ثمة حكمة تقول \" كلما كان الثوب ناصع البياض كانت اللطخة فيه أظهر \" ولقد أراد الله - تعالى -ألا يشوب بياض محمد - صلى الله عليه وسلم - لطخة وإن صغرت. وأراد أن ينشأ موسوماً بالطٌّهر، فحال بينه وبين أمور لم تكن مستنكرة في بيئته، ولم تكن قد حُرّمت، إذ لم يكن نور الوحي قد امتد من السماء إلى الأرض.
الحقيقة الناصعة تنطق بملء الفم أن العناية الإلهية والإعداد الرباني لمحمد - صلى الله عليه وسلم - ليست لقطات نادرة يسيرة، في سياق حياة عادية أو منفلتة، تسير على نسق حياة الشاردين السادرين، وإنما هي عناية موصولة شاخصة في فترة الإعداد شخوصاً يُفصح عما سيكون لسيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - من شأن عظيم، ودور صاغه في تاريخ البشر. وهي عناية تشع بموجات من النور والدلالة تومض وميضاً يقوى حيناً فيظهر للكثيرين، ويهدأ هيناً. لكنه على كل حال تيار مستمر دائم التدفق، لا ينقطع إرساله، ولا يتوقف إشعاعه، ولو لم يكن الأمر إعداداً وتهيئةً فكيف نفسر العفّة والنقاء اللذين صبغا أخطر مراحل حياةِ شابٍّ, نشأ يتيم الأبوين، فلا محاسب من الخلق ولا رقيب، في مجتمع يتاح فيه لأمثاله من ذوي المحتِد الطيب، والأصل الشريف العريق، والشباب الآسر الفاتن، غاية ما تصبو إليه نفسٌ في ميعة الصبا وفورة الشباب. وهو الذي لم تفتر رجولته، ولم تخب جذوتها حتى بعد أن أتم العقد السادس من عمره الشريف.
تأمل معي كيف - حفظه الله - تعالى - من تقديس الأصنام بين أناس ليس فيهم من يكلف نفسه عناء البحث عن حقيقة معتقده السخيف الزائف، فكلهم يقلد الآباء والأجداد، وإن كانوا في ضلال مبين. وكلهم راض عن دينه مرتاح إليه، إلا نفراً معدودين كقس بن ساعدة الإيادي وزيد بن عمرو بن نفيل وورقة بن نوفل، وكانت صرخاتهم تذهب أدراج الرياح، وتضيع صيحاتهم بين الجبال والوديان إذا ما ارتفعت بين الحين والحين معلنة فساد الوثنية وقيمها.
أليس عجيباً ما حدث في رحلة له - صلى الله عليه وسلم - مع عمه إلى الشام في قافلة من قوافل قريش حيث أبصره الراهب فرأى فيه ما قرأه في كتبهم من علامات النبي المنتظر وأراد أن يستوثق لأمر من الأمور فاستحلفه باللات والعُزّى عامداً ممتحناً فلم يتردد - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن انه ما بُغّض إليه شيء بغضهما.
أيقال: إن الصدفة العمياء هي التي جعلت محمداً - صلى الله عليه وسلم - يَنفِرُ مِن خرافات قومه، وهو نبات تلك البيئة: وُلِدَ فيها، ودَرَجَ على أرضها وفي مرابعها.
ليست الصدفة بل إنها العناية البصيرة والإعداد المقصود لمن سيقوم بعبء أعظم دين، وأكبر دعوة في التاريخ دون استشناء.
وفي هذه الرحلة المباركة جاءت شهادة راهب ليس بينه وبين محمد - صلى الله عليه وسلم - رابطة نسب أو وشيجة قربى. ومن العسير أن تلحقه التهمة. وهي شهادة خبير قد نذر حياته للغوص في أعماق الكتب السابقة، فوقع على ما فيها من أوصاف النبي الموعود وكان ذلك الجزء من الكتب قد نجا وسلم مما نال غيره من عبث وتحريف وقد جاءت الشهادة عندما سأل الحبرُ أبا طالب: ما يكون هذا منك؟ مشيراً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -، فقال أبو طالب: هو ابني. فقال الحبرُ: ما ينبغي لهذا الصبي أو الغلام أن يكون أبوه حياً!
فقال أبو طالب عندئذٍ,: إنه ابن أخي، مات أبوه، وأمه حبلى به، قال: صدقت. ونصحه أن يرجع به وأن يحذر عليه يهود.
إن السلسلة طويلة كثيرة الحلقات، ولكن حسبنا ما أوردناه، وإن فيه لكفاية ومَقنَعاً لغير ذوي الأهواء.
وإذاً فإن محمداً - صلى الله عليه وسلم - هو رسول الله والدلائل كثيرة لا تقف عند التهيئة والإعداد، بل إن كل موقف في حياته قبل النبوة وبعدها شاهد ودليل.
فصلى الله عليك يا رسول الهدى والحق في ذكرى مولدك وفي كل وقت وحين، ونسأل الله - تعالى -أن يوفقنا إلى العمل بكتاب ربنا وسنتك، وأن يرُدّنا والمسلمين إلى دينه رداً جميلاً. والحمد لله رب العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد