الحديث عن العظماء يأخذ بمجامع القلوب و تشرأب إليه أعناق أولي النهى تزدان بسيرهم المجالس و تعطر بأخبارهم الأندية و يتوق إلى معرفة سيرهم أصحاب الهمم و عشاق المعالي فما بالكم إخوتي إذا كان الحديث عن إمام العظماء و أشرف الشرفاء و سيد النبلاء ما بالكم إذا كان الحديث عن البدر يسري بضوئه متعة للسامرين ودليلاً للحائرين بل هو الشمس تهدي نورها وجه الأرض فيتلألأ ضياء و نوراً
ولد الهدى فالكائنات ضياء *** وفم الزمان تبسم و ثناء
الروح و الملأ الملائك حوله *** للدين و الدنيا به بشراء
و الوحي يقطر سلسلاً من سلسل *** و اللوح و القلم البديع رواء
يوم يتيه على الزمان صباحه *** و مساءه بمحمد وضاء
بك بشر الله السماء فزينت *** و تضوعت مسكاً بك الغبراء
يا من له الأخلاق ما تهو العلا *** منها و ما يتعشق الكبراء
زانتك في الخلق العظيم شمائل *** يغرى بهن و يولع الكرماء
حديثنا عن الشمس التي أشرقت فعمت بنورها الكون كله و لكن البون بينها وبين شمسنا شاسع جداً فشمسنا تغرب و شمسه - صلى الله عليه وسلم - تبقى منيرة إلى قيام الساعة قال - تعالى -:(يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إِنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً *وَدَاعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذنِهِ وَسِرَاجاً مٌّنِيراً)الأحزاب46
و قال - تعالى -: (يَا أَهلَ الكِتَابِ قَد جَاءكُم رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُم كَثِيراً مِّمَّا كُنتُم تُخفُونَ مِنَ الكِتَابِ وَيَعفُو عَن كَثِيرٍ, قَد جَاءكُم مِّنَ اللّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مٌّبِينٌ)المائدة15
قال الإمام الطبري - رحمه الله -: [{من الله نور} يعني بالنور محمدا - صلى الله عليه وسلم - الذي أنار الله به الحق وأظهر به الإسلام ومحق به الشرك فهو نور لمن استنار به...] تفسير الطبري ج4صـ501ـ
عن عرباض بن سارية قال سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: إني عبد الله وخاتم النبيين فذكر فيه إن أم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأت حين وضعته نورا أضاءت منه قصور الشام) قال: شعيب الأرنؤوط: حديث صحيح لغيره قال جابر - رضي الله عنه -: (رأيت رسول الله في ليلة أضحيان ـ أي ليلة مضيئة لا غيم فيها ـ فجعلت أنظر إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - و إلى القمر و عليه حلة حمراء فإذا هو أحسن عندي من القمر) رواه الترمذي
عن أنس بن مالك قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أضاء منها كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ولما نفضنا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الأيدي وإنا لفي دفنه حتى أنكرنا قلوبنا) رواه الترمذي و قال الألباني: صحيح.
حديثنا أيها الكرام عن السراج المنير الذي امتن الله به علينا فأنار القلوب بعد ظلمتها و أحياها بعد مواتها و هداها بعد ضلالتها و أسعدها بعد شِقوتها فكان - صلى الله عليه وسلم - الصباح بعد ليل طويل مظلم بهيم:
بزغ الصباح بنور وجهك بعدما *** غشت البرية ظلمة سوداء
فتفتقت بالنور أركان الدجى *** و سعى على الكون الفسيح ضياء
و مضى السلام على البسيطة صافياً *** تروى به الفيحاء و الجرداء
حتى صفت للكون أعظم شرعة *** فاضت بجود سخائها الأنحاء
يا سيد الثقلين يا نبع الهدى *** يا خير من سعدت به الأرجاء
حديثنا عن الرحمة المهداة و النعمة المسداة كنا على شفا حفرة من النار فأنقذنا الله به قال - تعالى -(وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَتَ اللَّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاءً فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَاناً وَكُنتُم عَلَى شَفَا حُفرَةٍ, مِنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ) (آل عمران: 103)
حديثا عن أروع قصص الحب و لكن من المُحب؟ و من المحبوب؟ و ما نوع الحب؟
أما المُحب فالشجر و الحجر و والجبل و السهل و الحيوان و الطير، و الحديث عن حب البشر له فشيء آخر و حديث آخر ما بالكم بحب أعين اكتحلت بالنظر إلى وجهه الكريم و آذان تلذذت بسماح حديثه ما بالكم بحب من جالسه و عاشره - صلى الله عليه وسلم - لا شك أنه حبٌ لم يُشهد مثله على وجه البسيطة.
أما المحبوب فهو خير من مشى على الأرض و خير من طلعت عليه الشمس بل هو شمس الدنيا و ضياؤها بهجتها و سرورها ريقه دواء و نفثه شفاء و عرقه أطيب الطيب أجمل البشر و أبهى من الدرر يأسر القلوب و يجتذب الأفئدة متعة النظر و شفاء البصر إذا تكلم أساخت له لقلوب قبل الأسماع فلا تسل عما يحصل لها من السعادة و الإمتاع كم شفى قلباً ملتاعاً و كم هدى من أوشك على الهلاك و الضياع.
قال ابن الجوزي - رحمه الله - في وصفه: [من تحركت لعظمته السواكن فحن إليه الجذع، و كلمه الذئب، و سبح في كفه الحصى، و تزلزل له الجبل كلٌ كنى عن شوقه بلسانه يا جملة الجمال، يا كل الكمال، أنت واسطة العقد و زينة الدهر تزيد على الأنبياء زيادة الشمس على البدر، و البحر على القطر و السماء على الأرض. أنت صدرهم و بدرهم و عليك يدور أمرهم، أنت قطب فلكهم، و عين كتبهم و واسطة قلادتهم، و نقش فصهم و بيت قصدهم.
ليلة المعراج ظنت الملائكة أن الآيات تختص بالسماء فإذا آية الأرض قد علت.
ليس العجب ارتفاع صعودهم لأنهم ذوو أجنحة، إنما العجب لارتفاع جسم طبعه الهبوط بلا جناح جسداني... ].
المحبوب هو محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم -.
أما نوع الحب فيكفي أنه حب أنطق الحجر و حرك الشجر و أبكى الجذع و أسكب دمع البعير فما بالك بإنسان له جنان يفيض بالحب و الحنان؟
فهيا أخي المبارك نتجول في بستان المحبة نختار من قصص الحب أروعها و نقتطف باقة عطرة من ذلك البستان الذي مُلئ بأجمل الأزهار و أعبقها:
القصة الأولى: الجذع يحن:
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال: (كان المسجد مسقوفا على جذوع من نخل فكان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا خطب يقوم إلى جذع منها فلما صنع له المنبر وكان عليه فسمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها فسكنت) رواه البخاري
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة فقالت امرأة من الأنصار أو رجل يا رسول الله ألا نجعل لك منبرا قال إن شئتم فجعلوا له منبرا فلما كان يوم الجمعة دفع إلى المنبر فصاحت النخلة صياح الصبي ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمها إليه تئن أنين الصبي الذي يسكن قال كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها) رواه البخاري
و زاد في سنن الدارمي بسند صحيح قال: (أما و الذي نفس محمد بيده لو لم التزمه لما زال هكذا إلى يوم القيامة حزناً على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) فأمر به فدفن.
كيف ترقى رقيك الأولياء *** يا سماء ما طاولتها سماء
إنما مثلوا صفاتك للناس *** كما مثّلَ النجومَ الماءُ
حن جذع إليك و هو جماد *** فعجيب أن يجمد الأحياء
كان الحسن - رحمه الله - يقول: يا معشر المسلمين الخشبة تحن إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شوقاً إلى لقائه فأنتم أحق أن تشتاقوا إليه.
عن عمرو بن سواد عن الشافعي - رحمه الله -: ما أعطى الله نبياً ما أعطى محمداً فقلت: أعطى عيسى إحياء الموتى. قال: أعطي محمداً حنين الجذع حتى سمع صوته فهذا أكبر من ذلك.
يحن الجذع من شوق إليك **** و يذرف دمعه حزناً عليك
و يجهش بالبكاء و بالنحيب **** لفقد حديثكم و كذا يديك
فمالي لا يحن إليك قلبي **** و حلمي أن أقبل مقلتيك
و أن ألقاك في يوم المعاد **** و ينعم ناظري من وجنتيك
فداك قرابتي و جميع مالي **** و أبذل مهجتي دوماً فداك
تدوم سعادتي و نعيم روحي **** إذا بذلت حياتي في رضاك
حبيب القلب عذر لا تلمني **** فحبي لا يحق في سماك
ذنوبي أقعدتني عن علو **** و أطمح أن أُقرب من علاك
لعل محبتي تسمو بروحي **** فتجبر ما تصدع من هواك
القصة الثانية: الحمامة تشتكي:
عبد الله بن مسعود عن أبيه - رضي الله عنه - قال: (كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ومررنا بشجرة فيها فرخا حمرة فأخذناهما قال فجاءت الحمرة إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تصيح فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - من فجع هذه بفرخيها قال فقلنا نحن قال فردوهما) رواه أبو داود والحاكم و قال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه
جاءت إليك حمامة مشتاقة *** تشكو إليك بقلب صب واجف
من أخبر الورقاء أن مقامكم *** حرم و أنك منزل للخائف
القصة الثالثة: الجمل يبكي:
عن عبد بن جعفر قال: (أردفني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خلفه ذات يوم فأسر إلي حديثا لا أحدث به أحدا من الناس وكان أحب ما استتر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحاجته هدفا أو حايش نخل فدخل حائطا لرجل من الأنصار فإذا فيه ناضح له فلما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - حن وذرفت عيناه فنزل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمسح ذفراه وسراته فسكن فقال من رب هذا الجمل فجاء شاب من الأنصار فقال أنا فقال ألا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها فإنه شكاك إلي وزعم أنك تجيعه وتدئبه) رواه الإمام أحمد قال شعيب الأرنؤوط: إسناده صحيح على شرط مسلم.
عن يعلى بن مرة الثقفي رضي الله - تعالى - عنه قال: ثلاثة أشياء رأيتها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بينا نحن نسير معه إذ مررنا ببعير يسنى عليه قال فلما رآه البعير جرجر فوضع جرانه فوقف عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: (أين صاحب هذا البعير) فجاءه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (بعنيه) قال: بل نهبه لك وإنه لأهل بيت مالهم معيشة غيره قال: (أما إذ ذكرت هذا من أمره فإنه شكا كثرة العمل وقلة العلف فأحسنوا إليه) قال: ثم سرنا حتى نزلنا منزلا فنام النبي - صلى الله عليه وسلم - فجاءت شجرة تشق الأرض حتى غشيته ثم رجعت إلى مكانها فلما استيقظ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكرت له فقال: (هي شجرة استأذنت ربها في أن تسلم على رسول الله فأذن لها) قال ثم سرنا فمررنا بماء فأتته امرأة بابن لها به جنة فأخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - بمنخره ثم قال: (اخرج إني محمد رسول الله) قال ثم سرنا فلما رجعنا من مسيرنا مررنا بذلك الماء فأتته المرأة بجزر ولبن فأمرها أن ترد الجزر وأمر أصحابه فشربوا اللبن فسألها عن الصبي فقالت والذي بعثك بالحق ما رأينا منه ريبا بعدك). قال الهيثمي: رواه أحمد بإسنادين والطبراني بنحوه وأحد إسنادي أحمد رجاله رجال الصحيح و صححه الألباني.
القصة الثالثة: الحجر و الشجر يسلم من فرط الحب:
عن جابر بن سمرة قال قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (إني لا أعرف حجر بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن) رواه مسلم و الترمذي و الإمام أحمد
وعن علي رضي الله - تعالى - عنه قال كنت مع النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة فخرجنا في بعض نواحيها فما استقبله جبل ولا شجر إلا وهو يقول السلام عليك يا رسول الله.
القصة الرابعة: الطعام و الحجر يسبح:
روى علقمة عن عبد الله قال إنكم تعدون الآيات عذابا وإنا كنا نعدها على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بركة لقد كنا نأكل الطعام مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ونحن نسمع تسبيح الطعام قال وأتي النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء فوضع يده فيه فجعل الماء ينبع من بين أصابعه فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - حي على الوضوء المبارك والبركة من السماء حتى توضأنا كلنا)رواه الترمذي و قال: هذا حديث حسن صحيح
عن أبي ذر - رضي الله عنه - قال: \" إني لشاهد عند رسول الله في حلقة وفي يده حصى فسبحن في يده وفينا أبو بكر وعمر وعثمان وعلي فسمع تسبيحهن من في الحلقة \". أخرجه الطبراني في الأوسط مجمع البحرين، والبزار واسناد الطبراني صحيح رجاله ثقات.
لئن سبحت صـم لجبال مجيبــه *** لداود أو لان الحديد المصفـح
فإن الصخور الصُـــمَّ لانت بكفه *** و إن الحصا في كفـه ليسبِّـح
وإن كان موسى أنبع الماء من العصـا *** فمن كفه قد أصبح الماء يطفـح
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد