أهم الأحداث ما بين أحد والخندق محاولات المشركين لزعزعة الدولة الإسلامية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كانت غزوة أحد مشجعة لأعداء الدولة الإسلامية على مواجهتها، وساد الشعور لدى الأعراب المشركين، بإمكان مناوشة المسلمين والتغلب عليهم، واتجهت أنظار المشركين من الأعراب إلى غزو المدينة لاستئصال شأفتهم، وكسر شوكتهم، فطمعت بنو أسد في الدولة الإسلامية، وشرع خالد بن سفيان الهزلي لجمع الحشود لكي يهاجم بها المدينة، وتجرأت عضل والقارة على خداع المسلمين، وقام عامر بن الطفيل يقتل القراء الدعاة الآمنين، وحاولت يهود بني النضير أن تغتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فتصدى لهذه المحاولات الماكرة الحبيب المصطفى بشجاعة فائقة، وسياسة ماهرة، وتخطيط سليم، وتنفيذ دقيق.

 

أولاً:طمع بني أسد في الدولة الإسلامية:

بلغت النبي - صلى الله عليه وسلم - بواسطة عيونه المنبثة في الجزيرة العربية أخبار الاستعدادات التي قام بها بنو أسد بن خزيمة بقيادة طليحة الأسدي من أجل غزو المدينة طمعا في خيراتها، وانتصارا لشركهم، ومظاهرة لقريش في عدوانها على المسلمين، فسارع النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى تشكيل سرية في مائة وخمسين رجلا من المهاجرين والأنصار وأمَّر عليهم أبا سلمة بن عبد الأسد(1)، المخزومي وعقد له لواء، وقال له: «سر حتى تنزل أرض بني أسد، فأغر عليهم قبل أن تتلاقى عليك جموعهم»(2).فسار إليهم أبو سلمة في المحرم(3) فأغار على أنعامهم، ففروا من وجهه فأخذها، ولم يلق عناء في تشتيت أعداء الإسلام، وعاد إلى المدينة مظفرًا، وأبو سلمة يعد من السابقين إلى الإيمان ومن خيرة الرعيل الأول، وقد عاد من هذه الغزوة متعبًا، إذ نَغَر جرحه الذي أصابه في (أحد) فلم يلبث حتى مات(4).ونلحظ في هذه السرية عدة أمور منها: الدقة في التخطيط الحربي عند النبي - صلى الله عليه وسلم - حيث فرق أعدائه قبل أن يجتمعوا، فذهلوا لمجيء سرية أبي سلمة وهم يظنون أن المسلمين قد أضعفتهم وقعة أحد وأذهلتهم عن أنفسهم، فأصيب المشركون بالرعب من المسلمين، ووهنت عزيمتهم، وانشغلوا بأنفسهم عن مهاجمة المدينة، وتظهر دقة المسلمين في الرصد الحربي واختيارهم التوقيت الصحيح والطريق المناسب، حيث وصلوا إلى الأعداء قبل أن يعلموا عنهم أي شيء رغم بعد المسافة، وكان هذا هو أهم عوامل نجاح المسلمين في هذه السرية، وتركت هذه السرية في نفوس الأعداء شعورًا مؤثرًا على معنوياتهم، ألا وهو قناعتهم بقدرة المسلمين على الاستخفاء والقيام بالحروب الخاطفة المفاجئة تجعلهم يمتلئون رعبا منهم ويتوقعون الإغارة في أي وقت، وهذا الشعور حملهم على الاعتراف بقوة المسلمين، ومسالمتهم(5).

 

ثانيًا: خالد بن سفيان الهذلي وتصدي عبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - له:

قام خالد بن سفيان الهذلي يجمع المقاتلة من هذيل وغيرها في عرفات، وكان يتهيأ لغزو المسلمين في المدينة مظاهرة لقريش، وتقربًا إليها، ودفاعًا عن عقائدهم الفاسدة، وطمعًا في خيرات المدينة، فأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الصحابي عبد الله بن أنيس الجهني إليه بعد أن كلفه مهمة قتله(6). وهذا عبد الله بن أنيس يحدثنا بنفسه قال - رضي الله عنه -: دعاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: «إنه قد بلغني أن خالد بن سفيان بن نبيح يجمع لي الناس ليغزوني» وهو بعرنة فأته فاقتله، قال: قلت: يا رسول الله انعته حتى أعرفه، قال: «إذا رأيته وجدت له قشعريرة».

 

قال: فخرجت متوشحًا بسيفي، حتى وقعت عليه بعرنة مع ظعن يرتاد لهن منزلاً، حين كان وقت العصر، فلما رأيته وجدت ما وصف لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من القشعريرة، فأقبلت نحوه، وخشيت أن يكون بيني وبينه محاولة تشغلني عن الصلاة، فصليت وأنا أمشي نحوه أوميء برأسي الركوع والسجود، فلما انتهيت إليه قال: من الرجل، قلت: رجل من العرب سمع بك وبجمعك لهذا الرجل فجاءك لهذا، قال: أجل أنا في ذلك، قال: فمشيت معه شيئا، حتى إذا أمكنني حملت عليه بالسيف حتى قتلته، ثم خرجت وتركت ظعائنه مكبات عليه، فلما قدمت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرآني فقال: «أفلح الوجه» قال: قلت: قتلته يا رسول الله، قال: «صدقت»، قال: ثم قام معي رسول الله فدخل في بيته فأعطاني عصا، فقال: «أمسك هذه عندك يا عبد الله بن أنيس».

 

قال: فخرجت بها على الناس فقالوا: ما هذه العصا؟ قال: قلت أعطانيها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأمرني أن أمسكها، قالوا: أولا ترجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فتسأله عن ذلك؟ قال: فرجعت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقلت: يا رسول الله لم أعطيتني هذه العصا؟ قال: «آية بيني وبينك يوم القيامة، إن أقل الناس المختصرون(7) يومئذ يوم القيامة» فقرنها عبد الله بسيفه فلم تزل معه، حتى إذا مات أمر بها فضمت معه في كفنه، ثم دفنا جميعًا)(8).

 

وفي هذا الخبر فوائد ودروس وعبر منها:

1- دقة الرصد الحربي: كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يعطي للجانب الأمني أهميتهº ولذلك كان يتابع تحركات الأعداء، ويعد بعد ذلك الحلول المناسبة للمشكلات والأزمات في وقتها الملائم، ولذلك لم يمهل خالد بن سفيان حتى يكثر جمعه ويشتد ساعده، بل عمل على القضاء على الفتنة وهي في أيامها الأولى بحزمº وبذلك حقق للأمة مكاسب كبيرة وقلل التضحيات المتوقعة من مجيء خالد بن سفيان بجيش لغزو المدينة، وهذا العمل يحتاج لقدرة في الرصد الحربي، وسرعة في اتخاذ القرار.

 

2- فراسة النبي - صلى الله عليه وسلم - في اختيار الرجال: كان - صلى الله عليه وسلم - يتمتع بفراسة عظيمة في اختيار الرجال ومعرفة كبيرة لذوي الكفاءات من أصحابه، فكان يختار لكل مهمة من يناسبها، فيختار للقيادة من يجمع بين سداد الرأي وحسن التصرف والشجاعة، ويختار للدعوة والتعليم من يجمع بين غزارة العلم ودماثة الخلق والمهارة في اجتذاب الناس، ويختار للوفادة على الملوك والأمراء من يجمع بين حسن المظهر وفصاحة اللسان وسرعة البديهة، وفي الأعمال الفدائية يختار من يجمع بين الشجاعة الفائقة وقوة القلب والمقدرة على التحكم في المشاعر(9). فقد كان عبد الله بن أنيس الجهني قوي القلب ثبت الجنان، راسخ اليقين، عظيم الإيمان(10). وبجانب هذه الصفات العظيمة التي أهلته لهذه المهمة فهناك سبب آخر فقد كان يمتاز بمعرفة مواطن تلك القبائل لمجاورتها ديار قومه (جهينة) (11).

 

3- المكافأة على هذا العمل أخروية: لم تكن المكافأة على هذا العمل العظيم الجريء مادية دنيوية كما يتمناه الكثير ممن يقوم بالمهمات الشاقة في جيوش العالم قديما وحديثا، بل كانت أسمى من ذلك وأعظم فهي وسام شرف أخروي قليل من يناله(12)، فقد كان الصحابة -رضي الله عنهم- وسائر المتقين لا ينتظرون جزاء في الدنيا، ولو حصلوا على شيء من متاع الدنيا فإنه لا يعتبر عندهم شيئًا كبيرًا، وإنما ينتظرون جزاءهم في الآخرة، ولهذا كانت مكافأة عبد الله بن أنيس تلك العصا التي ستكون علامة بينه وبين رسول الله يوم القيامة، وهذا يدل على علو مكانته في الآخرة(13).

 

4- بعض الأحكام الفقهية: تضمن هذا الخبر بعض الأحكام والفوائد منها (صلاة الطالب) قال الخطابي: واختلفوا في صلاة الطالب، فقال عوام أهل العلم: إذا كان مطلوبًا كان له أن يصلي إيماء، وإذا كان طالبًا نزل إن كان راكبًا وصلى بالأرض راكعًا وساجدًا(14)، وكذلك قال ابن المنذر(15)، أما الشافعي فشرط شرطًا لم يشترطه غيره، قال: إذا قل الطالبون عن المطلوبين، وانقطع الطالبون عن أصحابهم فيخافون عودة المطلوبين عليهم فإذا كان هكذا كان لهم أن يصلوا يومئون إيماء.

 

قال الخطابي: وبعض هذه المعاني موجودة في قصة عبد الله بن أنيس(16)، وقد ذكر بدر العيني في عمدة القاري مذاهب الفقهاء في هذا الباب، فعند أبي حنيفة: إذا كان الرجل مطلوبًا فلا بأس بصلاته سائرًا، وإن كان طالبًا فلا، وقال مالك وجماعة من أصحابه: هما سواء، كل واحد منهما يصلي على دابته.

وقال الأوزاعي والشافعي في آخرين كقول أبي حنيفة، وهو قول عطاء والحسن والثوري وأحمد وأبي ثور.

وعن الشافعي: إن خاف الطالب فوت المطلوب أومأ وإلا فلا(17).

 

5- جواز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -: يجوز الاجتهاد في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم -، فعبد الله بن أنيس - رضي الله عنه - أداه اجتهاده أن يصلي هذه الصلاة، ولم ينكر عليه - صلى الله عليه وسلم -، مما يدل على جواز الصلاة عند شدة الخوف بالإيماء(18).

 

وهذا الاستدلال صحيح لا شك فيهº لأن عبد الله بن أنيس فعل ذلك في حياة النبي وذلك زمن الوحي، ومحال أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يطلع عليه(19).

 

6- من دلائل النبوة: فقد وصف - صلى الله عليه وسلم - خالد بن سفيان الهذلي لعبد الله بن أنيس وصفًا دقيقًا دون أن يراه حتى أن ابن أنيس عندما رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - متعجبًا كما وقع في رواية الواقدي: (يا رسول الله ما فرقت من شيء قط، قال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «بلى آية ما بيني وبينه أن تجد له قشعريرة إذا رأيته»(20) وقد وجد عبد الله بن أنيس خالد الهذلي على الصفة التي ذكر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، يقول عبد الله: فلما رأيته هبته وفرقت منه، فقلت: صدق الله ورسوله(21).

 

7- ما قاله عبد الله بن أنيس من الشعر في قتله لخالد الهذلي:

 تركت ابن ثور كالحوار وحوله *** نوائح تفري كل جيب مقدد

تناولته والظعن خلفي وخلفه *** بأبيض من ماء الحديد المهند

أقول له والسيف يعجم رأسه  *** أنا ابن أنيس فارسًا غير قعدد

وقلت له خذها بضربة ماجد  *** حنيف على دين النبي محمد

وكنت إذا هم النبي بكافر  *** سبقت إليه باللسان وباليد(22)

 

ثالثا: غدر قبيلتي عضل والقارة، وفاجعة الرجيع:

اختلفت مرويات سرية الرجيع فيما بينها كثيرًا حول السبب الذي من أجله بعث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وفي الوقت الذي يورد البخاري بأنه إنما بعث عينًا لتجمع المعلومات عن العدو(23)، فإن مرويات أخرى بأسانيد صحيحة ورد فيها أنه قدم على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رهط من قبيلتي عضل والقارة المضريتين إلى المدينة وقالوا: (إن فينا إسلامًا فابعث معنا نفرًا من أصحابك يفقهونا ويقرئونا القرآن ويعلمونا شرائع الإسلام)(24)، ويظهر أن قبيلة هذيل قد سعت للثأر من المسلمين لخالد بن سفيان الهذلي فلجأت إلى الخديعة والغدر، وقد جزم الواقدي(25) بأن السبب هو أن بني لحيان وهم حي من هذيل، مشت إلى عضل والقارة، وجعلت لهم جعلا ليخرجوا إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويطلبوا منه أن يخرج معهم من يدعوهم إلى الإسلام ويفقههم في الدين، فيكمنوا لهم ويأسروهم ويصيبوا بهم ثمنًا في مكة(26).

 

وهكذا بعث الرسول - صلى الله عليه وسلم - هذه السرية التي تتألف من عشرة من الصحابة(27)، وجعل عليهم عاصم بن ثابت بن الأقلح أميرًا، حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة أغار بنو لحيان، وهم قريب من مائتي مقاتل، فألجأوهم إلى تل مرتفع بعد أن أحاطوا بهم من كل جانب، ثم أعطوهم الأمان من القتل، ولكن قائد السرية أعلن رفضه أن ينزل في ذمة كافر(28)، وقال عاصم بن ثابت: إني نذرت ألا أقبل جوار مشرك أبدًا، فجعل عاصم يقاتلهم وهو يقول:

ما عِلَّتي وأنا جلد نابل

النبل والقوس لها بلابل(29)

تزل عن صفحتها المعابل

الموت حق والحياة باطل

وكل ما حمّ الإله نازل  

بالمرء والمرء إليه آثل

إن لم أقاتل فأمي هابل(30)

فرماهم بالنبل حتى فنيت نبله، ثم طاعنهم بالرمح حتى كسر رمحه، وبقي السيف فقال: اللهم حميت دينك أول نهاري فاحم لي لحمي آخره، وكانوا يجردون كل من قتل من أصحابه، فكسر غمد سيفه ثم قاتل حتى قُتل، وقد جرح رجلين وقتل واحدًا وكان يقول وهو يقاتل:

أنا أبو سليمان ومثلي رامي **

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply