مدخل:
(بَلِّغُوا عَنِّي ولَو آيةً...) [رواه البخاري].
المناعة التي يتمتع بها الجسم الحيّ السليم، هي حالة من القوّة والحصانة، التي يمنحها الله - سبحانه - لهذا الجسم، ليستطيع الثبات أمام كل الأخطار ويعيش بأمانٍ, من كلّ مكروه، بامتلاكه لقوّةٍ, ذاتيةٍ, فعّالةٍ,، عن طريق جهازٍ, قويٍ, متأهبٍ, باستمرارٍ, للحماية والدفاع، ضدّ أي جسمٍ, غريبٍ, من جراثيم وطفيليات، وغيرها من العناصر التي تعمل على إضعافه أو تؤدي إلى هلاكه.. وبهذا يتم الحفاظ على حالة القوّة والاستقرار الآمن للجسم الحيّ السليم.
إذا كان الجسم الحيّ هو \"الحركة الإسلاميّة\"، فإنّ جهازه المناعيّ هو \"نظامها الأمنيٌّ\"، الذي ينبغي أن يأخذ دوره الكامل، لحماية كلِّ مكوّناتها على أفضل صورةٍ, ممكنةٍ,.. وإنَّ درجة قوّة الحركة الإسلاميّة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمدى فاعلية \"نظامها الأمنيّ\"، الذي يدرأ عنها الأخطار والأهوال، بحنكةٍ, وذكاءٍ, ودهاء، في كلِّ الظروف والأحوال، لا سيما في هذا العصر وهذه المرحلة التي تمرّ بها الأمة الإسلامية، فأعداء الحركة الإسلامية موجودون في كل زمان، واستمرار وجودهم يقتضي استمرار فاعليّة \"النظام الأمني\" لهذه الحركة.
لقد ربّى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جيلاً فريداً، وبنى أمّةً لا مثيل لها، متخطياً كلّ العقبات، ثابتاً أمام كلّ أنواع الأخطار، شامخاً بوجه كلّ هول، وذلك في كل مراحل الدعوة التي حمل لواءها منذ فجرها الأوّل.
كيف تمّ ذلك؟.. وما سرٌّ النجاح الكبير في تحقيق ما لم يتحقق في تاريخ البشريّة؟!
في السيرة النبويّة المطهّرة، الجواب الشافي!
هل اطّلعتم على السيرة النبوية بعمق؟.. وهل تأمّلتم في ثناياها، وما احتوته من مواقف وأحداثٍ, وواقعات؟
لنقرأ سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعينٍ, \"أمنيةٍ,\" مبصرة، وإن فعلنا، فسنكتشف أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، كان يتّبع نهجاً أمنياً كاملاً متكاملاً في كل مراحل الدعوة الإسلامية، فلكلّ مرحلةٍ, ظروفها وأسلوب التعامل معها، وفق خططٍ, أمنيةٍ, واضحةٍ,، وَقَفَت وراءها عقليةٌ أمنيةٌ متمكّنةٌ، واثقةٌ بنصر الله وتأييده، ساعيةٌ بشكلٍ, دائمٍ, لاتخاذ كلّ الأسباب الممكنة لاستحقاق ذلك النصر والتأييد الرّبانيّ.
في ظلال السيرة النبويّة الشريفة، نظراتٌ وإضاءات:
لقد زخرت سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكلّ ما يدلٌّ على أنّهُ - عليه الصلاة والسلام - امتلك عقليةً أمنيةً عزّ نظيرها، حيث كانت أهمّ أركان التخطيط الذي ألقى بظلاله الواضحة على طريقة تعامله مع كلّ ظرفٍ,، أو حدثٍ,، أو أمرٍ, طارئ! ودراسة سيرة المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، تضعنا أمام حقائق لا يمكن تجاهلها، أو التقليل من شأنها.. وحريُّ بأبناء الحركة الإسلاميّة أن يستفيدوا منها، وينهلوا من عِبَرها، ويتعلّموا من دروسها ويُرشِّدوا سيرهم، مطمئِنّين إلى ارتكازهم على أرضيةٍ, صلبةٍ, من الأساس الشرعيّ العمليّ الحقيقيّ، الذي ينبغي أن يكون الناظم لخطّ سيرهم باتجاه تحقيق أهداف الإسلام في الأرض:
أولاً: أول هذه الحقائق هي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يتخلَّ عن نهجه الأمنيِّ الفذّ في كلّ مراحل الدعوة الرّبانيّة، السلمية والحربية، والعلنية والسرية، والدفاعية والهجومية!
فالأسلوب الأمنيٌّ في تعامله مع الظروف المحيطة لم يكن مهمّاً فحسب، بل كان حاجةً لا يمكن السير بغيرها في طريق الدعوة، منذ فجرها الأول، لأنّ أعداءها موجودون في كل مرحلةٍ, من مراحلها.
ثانياً: إنّ الاهتمام الفائق بأمن الدعوة من قِبَله \"- صلى الله عليه وسلم - \"، كان أحد العوامل المهمة لاتخاذه الأسباب الشرعية، التي تكاملت مع أركان التّوكلِ على الله - سبحانه وتعالى -، ما أدى إلى تحقيق النجاحات والانتصارات - بإذن اللهِ - عز وجل - وعونه - في كلِّ الظروف، ومهما كانت الأوضاع والأحوال.
ثالثاً: التطوير المستمر للأساليب الأمنية، كان من أهم العوامل التي مكّنت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، من مواكبة المرحلة التي تنتقل إليها الدعوة الإسلامية.
رابعاً: كانت درجة الاهتمام الأمنيّ عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تتناسب \"طرداً\" مع اشتداد المحنة أو الظروف من حوله، فكلّما اشتدت الظروف ضراوةً، ارتفعت درجة الاهتمام الأمنيّ، التي تستوجب اتخاذ الإجراءات الحازمة للتعامل الأمثل معها!
خامساً: إنّ الرؤية الأمنيّة المتميّزة التي امتلكها رسولنا وحبيبنا - صلى الله عليه وسلم -، كانت الرّكن الأساس الذي تحققت به حماية الدّعوة الجديدة، بعد فضل الله - عز وجل - وتأييده! ولو لم يتقن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أساليب العمل الأمني، لقُضِيَ على دعوته في مهدها، أو في أيّ مرحلةٍ, من مراحلها! وسنفصّل هذه القضيّة بإسهابٍ, - إن شاء الله - في حلقاتنا القادمة، لكننا نذكّر هنا بالاحتياطات الأمنية الكبيرة التي اتخذها - صلى الله عليه وسلم - في مواقع مهمة ومراحل مصيريّةٍ, من تاريخ الدعوة، كما حصل في\"بيعة العقبة الثانية\"، أو أثناء \"هجرته إلى يثرب\"، أو في غزوة \"الخندق\"، أو في غزوة \"الحديبية\"، أو عندما تآمر \"يهود بني قريظة\" أو \"بني النضير\" أو غيرهم.. عليه وعلى الدّعوة الإسلاميّة.
فاستمرار الدعوة كان بفضل الله - عز وجل - أولاً، ثم بفضل التخطيط والدهاء الأمنيّ الذي تميّز به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثانياً، ما أدّى إلى حماية هذه الدعوة، وحماية مؤسساتها وأهلها ورجالاتها، إلى أن تحققت كلٌّ أهدافها في نشر الإسلام على الأرض الواسعة.
سادساً: كانت العناية الإلهية أهمَّ حلقات \"الحماية الأمنيّة\"، وذلك عندما كان يخرج الأمر عن حدود القدرة البشريّة، فالله - سبحانه وتعالى - يحمي الدّعوة ورجالها \"وأوّلهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم -\" في الظروف الصّعبة الشديدة الأكبر من قدرة الإنسان وطاقته، وهذا التأييد الرّباني لم يكن في الحقيقة إلا ثمرةً من ثمرات الالتزام التام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، باتخاذه الأسباب الكاملة لتحقيق أمن الدّعوة، وأمن عناصرها، وكلِّ جوانبها! والأمثلة على ذلك كثيرة، نذكر منها:
الوحي الذي أخبره - صلى الله عليه وسلم - بحقيقة مسجد الضّرار، الذي بناه المنافقون ليكون وكراً للمؤامرات على الدّعوة الإسلامية.
الوحي الذي أخبره - صلى الله عليه وسلم - أيضاً، عن المؤامرة التي أعدّها يهود بني النضير لاغتياله.
حادثة \"سراقة بن مالك\" أثناء هجرته - صلى الله عليه وسلم -.
حادثة نوم فتيان قريشٍ, - بإذن الله - عند باب بيته، قبيل خروجه منه مهاجراً إلى يثرب.
ومما يجدر ذكره أيضاً، أنّ هذه العناية الربانية، يمكن أن تتحقق لأبناء الدعوة، وللدعوة ذاتها، في أي زمنٍ, من الأزمان، وأي عصرٍ, من العصور.. بشرط أن يمتلك هؤلاء الأبناء عوامل استحقاقها، بكل ما يعنيه هذا الكلام من معنىً وأبعاد.
السيرة النبويّة المطهّرة، وأبعادها الأمنية:
مراحل السيرة النبويّة متداخلة فيما بينها، لا ينفصل بعضها عن بعضٍ, انفصالاً واضحاً، وكل مرحلةٍ, تحمل بذور المرحلة التي تليها، ثم تتشابك كلها بحيث تشكّل وحدةً تاريخيةً منسجمةً متكاملة، ولا يعني تقسيمنا سيرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مراحل، سوى تسهيل الدراسة والاستنباط، وربط ذلك بالطابع العام الذي يميّز كل مرحلةٍ, عن غيرها بوضوح.. وبناءً على ذلك، فإنّ السيرة المطهّرة يمكن تقسيمها إلى المراحل التالية:
أولاً: المرحلة المكّية:
وهي مرحلة تكوين الإيمان، وتأسيس البنيان الإيمانيّ الذي سيحمل أعباء الدعوة المقبلة ويمضي بها، حتى يتحقق هدف الإسلام في الأرض.. وهذه المرحلة \"المكية\" يمكن تجزئتها إلى جزأين:
1) المرحلة السّرية للدعوة:
وتميزت بسرّية الدعوة، وسرّية التنظيم.. أي أنّ الدعوة إلى الدين الجديد \"الإسلام\" كانت تأخذ طابعاً سرّياً، وأنّ توزيع المهمات، وترتيب الأعمال والنشاطات، و.. كان سرّياً أيضاً لا يطّلع عليه أحد إلا المعنيّون بذلك، ولا يطّلع فرد مسلم على مهمة أخيه المسلم الآخر، والكلّ يتحرك نحو الهدف تحت إمرة الرجل الأول، الذي هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وهو الرجل الذي لا يتحرك ولا يعمل إلا بما يأمره به الله - سبحانه وتعالى -، وفق الناظم الأساس، الذي هو تعاليم الدين الجديد، مع حرّيةٍ, في الحركة اليومية واتخاذ الإجراءات والقرارات والترتيبات، التي تكفل حماية هذا البناء وهذا الطريق من جهة، ونجاحه في تحقيق أهدافه الربانية من جهةٍ, ثانية.
هكذا امتدّت هذه المرحلة إلى ثلاث سنواتٍ, من العمل الشاقّ الذي لا يعلم به أحد، إلا الله - عز وجل -، وأبناء الدّعوة الذين انضمّوا إليها، وانخرطوا في صفوفها.
2) المرحلة العلنيّة للدّعوة:
وهي \"طبعاً\" جزءٌ مهمٌ من المرحلة المكيّة، امتدّت إلى ما يقرب من عشر سنوات، وانتهت بهجرته - صلى الله عليه وسلم - إلى يثرب، علماً بأنّ بدايتها كانت في اللحظة التي نزل فيها قول الله - عز وجل -: {فَاصدَع بِمَا تُؤمَرُ وَأَعرِض عَنِ المُشرِكِينَ} [الحجر: 94].. {وَأَنذِر عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ} [الشعراء: 214].
وقد تميّزت هذه المرحلة بعلنيّة الدّعوة، لكن ببقاء التّنظيم سرّياً! فالدّعوة إلى الله بين النّاس والقبائل والأهل والعشيرة كان علنيّاً، عرفه كلّ النّاس في مجتمع مكّة، وربما في غير مكّة.. لكن \"على الرّغم من ذلك الأسلوب العلنيِّ في الدّعوة\"، فإنّ المهمات والاتصالات وطرقها بين أبناء الدّعوة، وأماكن التّجمع واللقاءات الثنائية أو الأكبر من ذلك، والخطط التكتيكيّة لمعالجة كلّ موقفٍ, أو ظرفٍ, طارئٍ,، ورسم سبل توسيع دائرة الدّعوة، واختيار الأفراد الذين سيُدعَونَ للدّخول في الإسلام، و.. كلّ ذلك كان سرّياً لا يعرفه أحدٌ من النّاس إلا أصحاب العلاقة من أبناء الدّعوة..
وبمعنىً آخر: إنَّ التّنظيم كان سرّياً، وبقي كلٌّ ما يتعلّق به على حاله كما كان في مرحلة السنوات الثلاث الأولى \"المرحلة السرّية\"، فكانت هذه المرحلة - من هذه النّاحية - استمراراً للمرحلة التي سبقتها…
ثانياً: مرحلة الهجرة:
وهي مرحلةٌ قصيرةٌ تفصل بين مرحلتين مهمتين، وتميّزت بالتّخطيط الأمنيّ النّبويّ البارع، والتنفيذ المتقن المحسوب، كما تميّزت بالدّهاء في اتخاذ الاحتياطات الأمنيّة وتوزيع الأدوار!
لقد بدأت إرهاصات هذه المرحلة بالإعداد لها في بيعتيّ العقبة \"الأولى والثانية\"، ثم امتدّت إلى هجرة أصحابه - صلى الله عليه وسلم -، وانتهت بهجرته \"- عليه الصلاة والسلام -\" مع صاحبه الحبيب أبي بكرٍ, الصِّدّيق رضوان الله عليه.
ثالثاً: المرحلة المدنية:
وهي مرحلة تأسيس الدّولة القويّة، ورفع بنيانها، وتشكيل مؤسّساتها، لتكون المقرّ القويّ المتين للانطلاق والانتشار، وامتدّت هذه المرحلة حتى وفاته - صلى الله عليه وسلم -، أي ما يقرب من عشر سنواتٍ, من التوسّع والانتصارات.
ولأن اهتمامنا سينصبّ على دراسة الجانب الأمنيّ في السيرة المطهّرة، فإننا نقسم هذه المرحلة إلى ثلاث مراحل:
1) مرحلة البناء الدّاخليّ المتين: التي تميّزت باتخاذ الإجراءات والترتيبات الكفيلة بتحقيق الأمن من اليهود أولاً، والأمن من المنافقين المندسّين في الصّفوف المسلمة ثانياً.
2) مرحلة الحرب الدّفاعيّة: وتمتدّ حتى نهاية غزوة الخندق، حين قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (الآنَ نغزوهُم ولا يغزوننا، نحنُ نسيرُ إليهم) [رواه البخاري].. وتميّزت هذه المرحلة بما يلي:
أ) كثرة السرايا، والغزوات الصغيرة، وبثّ العيون في القبائل.
ب) وقوع الغزوات الكبرى مثل: بدر، وأحد، والخندق.
ج) الصّراع مع اليهود: كبني النضير، وبني قينقاع، وبني المصطلق، وبني قريظة.
3) مرحلة الحرب الهجوميّة: التي امتدّت حتّى وفاته - عليه الصلاة والسلام -، وتميّزت بما يلي:
أ) الصّراع مع المشركين في عُقر دارهم: الحديبية، عمرة القضاء، فتح مكّة، غزوة حنين..
ب) الصّراع مع اليهود وتصفية آخر معاقلهم: غزوة خيبر.
ج) الصّراع مع النّصارى: في مؤتة، وتبوك.
وسندرس بإذن الله - بالتحليل والتعليل والتوضيح، أمثلةً مهمّةً من سيرة رسولنا وحبيبنا محمدٍ, \"- صلى الله عليه وسلم -\"، نختارها من كل المراحل، لنبيّن أهمية \"العمل الأمنيّ\" ضمن منظومة العمل الإسلامي الحركي، ولنظهر أنّ البراعة في بناء \"نظامٍ, أمنيٍ,\" فعّالٍ, متطوّرٍ, للحركة الإسلامية، ضرورة لا يمكن السير بغيرها، أو التحرّك السليم من غير بنائها ورعايتها، ما دام هناك أعداء يتربّصون بها شرّاً، في كل الظروف والأحوال والأزمان.
نسألُ الله - سبحانه -، أن يلهمنا الخير والسّداد والرَّشاد، وأن يعفوَ عن الأخطاء والزّلات، ويشرح صدورنا للخير والعمل الجادّ المنتج، وينوِّر أبصارنا وبصائرنا لكلّ أمرٍ, سديدٍ, مفيدٍ, لهذه الأمة.
{رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بَعدَ إِذ هَدَيتَنَا وَهَب لَنَا مِن لَدُنكَ رَحمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} [آل عمران: 8].
والحمد لله ربِّ العالمين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد