أجمع المشركون على محاربة الدعوة التي عرَّت واقعهم الجاهلي، وعابت آلهتهم وسفهت أحلامهم، أي آراءهم وأفكارهم، وتصوراتهم عن الله والحياة والإنسان والكون، فاتخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدعوة وإسكات صوتها، أو تحجيمها وتحديد مجال انتشارها.
أولاً: محاولة قريش لإبعاد أبي طالب عن مناصرة وحماية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «جاءت قريش إلى أبي طالب فقالوا: إن ابن أخيك هذا قد آذانا في نادينا ومسجدنا فانهه عنا، فقال أبو طالب لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن بني عمك هؤلاء زعموا أنك تؤذيهم في ناديهم ومسجدهم، فانته عن أذاهم، فحلق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ببصره إلى السماء فقال: «ترون هذه الشمس؟ » قالوا: نعم، قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعلوا منها بشعلة» وفي رواية: «والله ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعل أحد من هذه الشمس شعلة من نار» فقال أبو طالب: «والله ما كذب ابن أخي قط، فارجعوا راشدين»، وحاولت قريش مرات عديدة الضغط على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بواسطة عائلته ولكنها فشلت.
ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه، وتصميمه على مناصرته وعدم خذلانه، فاشتد ذلك على قريش غمًّا وحسدًا ومكرًا، فمشوا إليه بعمارة بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا أبا طالب هذا عمارة بن الوليد، أنهد فتى في قريش، وأجملهم، فلك عقله ونصره، واتخذه ولدًا فهو لك، وأسلم إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين آبائك، وفرق جماعة قومك وسفه أحلامنا، فنقتله فإنما هو رجل برجل» قال: «والله لبئس ما تسومونني أتعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابني فتقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبدا».
وإن المرء ليسمع عجبًا، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالب مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمد - صلى الله عليه وسلم -، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضم بني هاشم وبني المطلب إليه في حلف واحد على الحياة والموت، تأييدًا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، مسلمهم ومشركهم على السواء، وأجار ابن أخيه محمدا إجارة مفتوحة لا تقبل التردد أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهلية والتقاليد العربية تسخر من قبل النبي - صلى الله عليه وسلم - لخدمة الإسلام، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشًا تصنع ما تصنع في بني هاشم وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه، من منع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقيام دونه، فاجتمعوا إليه وقاموا معه وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهب عدو الله اللعين.
فلما رأى أبو طالب من قومه ما سره من جهدهم معهم، وحدبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم، ومكانه منهم ليشد لهم رأيهم، وليحدبوا معه على أمره فقال:
إذا اجتمعت يومًا قريش لمفخر * * * فعبد مناف سرها وصميمُها
وإن حُصلت أشراف عبد منافها * * * ففي هاشم أشرافُها وقديمها
وإن فَخَرَت يومًا فإن محمدا * * * هو المصطفى من سر وكريمُها
تداعت قريش غثها وثمينها * * * علينا فلم تظفر وطاشت حلومها
وكنا قديمًا لا نُقر ظُلامة * * * إذا ما ثنوا صُعر الخدود نُقيمها
وحين حاول أبو جهل أن يخفر جوار أبي طالب تصدى له حمزة، فشجه بقوسه، وقال له: تشتم محمدا وأنا على دينه، فرد ذلك إن استطعت.
إنها ظاهرة فذة أن تقوم الجاهلية بحماية من يسب آلهتها، ويعيب دينها، ويسفه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، و لا يُمسٌّ محمد - صلى الله عليه وسلم - بسوء.
ولما خشي أبو طالب دهماء العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوذ فيها بحرمة مكة، وبمكانه منها، وتودد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره أنه غير مُسلِمٍ, رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا تاركه لشيء أبدا حتى يهلك دونه فقال:
ولما رأيت القوم لا ود فيهم * * * وقد قطعوا كل العرى والوسائل
وقد صارحونا بالعداوة والأذى * * * وقد طاوعوا أمر العدو المزايل
وقد حالفوا قومًا علينا أَظِنَّةً * * * يعضون غيظًا خلفنا بالأنامل
صبرت لهم نفسي بسمراء سمحة * * * وأبيض عضب من ترات المقاول
وأحضرت عند البيت رهطي وإخوتي * * * وأمسكت من أثوابه بالوصائل
وتعوذ بالبيت وبكل المقدسات التي فيه، وأقسم بالبيت بأنه لن يسلم محمدا ولو سالت الدماء أنهارًا واشتدت المعارك مع بطون قريش:
كذبتم وبيت الله نُبزَى محمدا * * * ولما نطاعن دونه ونناضل
ونسلمه حتى نصرع حوله * * * ونذهل عن أبنائنا والحلائل
وينهض قوم في الحديد إليكم * * * نهوض الروايا تحت ذات الصلاصل
وقرّع زعماء بني عبد مناف بأسمائهم لخذلانهم إياه، فلعتبة بن ربيعة يقول:
فعتبة لا تسمع بنا قول كاشح * * * حسود كذوب مبغض ذي دغاول
ولأبي سفيان بن حرب يقول:
ومر أبو سفيان عني معرضا * * * كما مَرَّ قَيل من عظام المقاول
يفر إلى نجد وبردَِ مياهه * * * ويزعم أني لست عنكم بغافل
وللمطعِم بن عدي سيد بني نوفل يقول:
أمطعِم لم أخذُلك في يوم نجدة * * * ولا معظم عند الأمور الجلائل
أمطعم إن القوم ساموك خطة * * * وإني متى أوكل فلست بوائل
جزى الله عنا عبد شمس ونوفلاً * * * عقوبة شر عاجلاً غير آجل
لقد كان كسب النبي - صلى الله عليه وسلم - عمه في صف الدفاع عنه، نصرًا عظيمًا، وقد استفاد - صلى الله عليه وسلم - من العرف القبلي فتمتع بحماية العشيرة، ومنع من أي اعتداء يقع عليه، وأعطى حرية التحرك والتفكير، وهذا يدل على فهم النبي - صلى الله عليه وسلم - للواقع الذي يتحرك فيه، وفي ذلك درس بالغ للدعاة إلى الله - تعالى -، للتعامل مع بيئتهم ومجتمعاتهم والاستفادة من القوانين والأعراف والتقاليد لخدمة دين الله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد