غزوة أحد


  

بسم الله الرحمن الرحيم

الخطبة الأولى:

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، واعلموا أن أبرز خصائص وسمات هذه الأمة المباركة أنها أمة جهاد ومجاهدة، فقد بعث الله فيها خاتم أنبيائه وآخر رسله وأمره بدعوة الناس كافة وقتال من خالف أمره، فعن ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله: ((بعثت بين يدي الساعة بالسيف حتى يعبد الله وحده لا شريك له، وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وجعل الذل والصغار على من خالف أمري)) رواه أحمد وأبو داود بسند جيد[1].

وقد قام نبينا بالجهاد حق القيام، فجاهد في الله حق جهاده بالقلب والجنان والدعوة والبيان والسيف والسنان، فكانت حياته موقوفة على الجهاد في سبيل الله، ولهذا كان أرفع العالمين ذكرًا وأعظمهم عند الله قدرًا، وقد خاض بنفسه كثيرًا من المعارك فأصيب وأصيب أصحابه في بعضها، ثم كانت العاقبة لهم.

 

هم العصبة المثلى ولولا جراحهم *** لظل بهيـم الليل كالموج عاتيا

أولئك أتبـاع النـبي وحزبـه *** ولولا هم ما كان في الأرض مسلم

ولولا هم كانت ظـلامًا بأهلها *** ولكـن هـم فيها بدور وأنجـم

فصلوات الله عليه وعلى أصحابه *** الذين قاموا بالدين خير قيام.

 

أيها المؤمنون، إن من المعارك التي خاضها النبي بنفسه غزوة أحد التي كانت محلاً لأحداث كبار ودروس وعبر عظام. فهي فياضة بالعظات الغوالي والمواعظ القيمة، أنزل الله فيها آيات طوالاً، وإليكم ـ أيها الإخوة ـ عرضًا موجزًا سريعًا لأحداث هذه الواقعة.

فقد كانت هذه الغزوة في شوال من السنة الثالثة من الهجرة، أي: بعد تلك الهزيمة النكراء التي لحقت بالمشركين يوم بدر يوم الفرقان يوم التقى الجمعان.

فلم يقر لقريش قرار بعد تلك النازلة، فلما استدارت السنة خرجت قريش وحلفاؤها وانضم إليهم كل ناقم على الإسلام وأهله، فخرج الثائرون في عدد يربو على ثلاثة آلاف مقاتل، فوصلوا مشارف المدينة قريبًا من جبل أحد، استشار النبي أصحابه يوم الجمعة في الخروج، فخرج إليهم بنحو ألف مقاتل، فما لبث رأس النفاق عبد الله بن أبي أن انخذل بثلث العسكر ورجع إلى المدينة، فتعبأ رسول الله للقتال، وعبأ من كان معه من الصحابة ورتب الجيش، فجعل عبد الله بن جبير على الرماة وكانوا خمسين رجلاً وقال لهم: ((احموا ظهورنا))، وأمرهم أن يثبتوا مكانهم.

فكانت الدولة أول النهار للمسلمين على الكفار، فانهزم أعداء الله ورسوله وولوا مدبرين حتى انتهوا إلى نسائهم، فلما رأى الرماة هزيمة المشركين ونصر المؤمنين ولاحت الغنائم ثار في نفوس بعضهم حب الدنيا، فغادروا مواقعهم يبغون الغنائم والأسلاب، وتركوا مراكزهم التي أمرهم رسول الله بحفظها، وقالوا: يا قوم الغنيمة، فذكرهم أميرهم عهد رسول الله فلم يسمعوا وظنوا أن ليس للمشركين رجعة، فأخلوا الثغر، فكرَّ فرسان قريش لما رأوا الثغر خاليًا فأحاطوا بالمسلمين، وأتوهم من حيث لم يحتسبوا، فارتبكت صفوف المسلمين، وانقلبت الكفة لصالح المشركين، وتلك الأيام نداولها بين الناس، قد جعل الله لكل شيء قدرًا، فقتل سبعون من الصحابة - رضي الله عنهم -، منهم حمزة عم رسول الله وأسد الله ورسوله، فحزن المسلمون لذلك أشد الحزن، حتى قال كعب بن مالك:

بكت عيني وحقّ لها بكاها *** وما يغني البكاء ولا العويـل

 

على أسد الإله غداة قالوا: *** أحمزة ذاكم الرجـل القتيل؟

 

أصيب المسلمون به جميعًا *** هناك وقد أصيب به الرسول

 

واشتد الخطب على المسلمين في تلك المعركة، وخلص المشركون إلى رسول الله يريدون قتله، فجرحوا وجهه، وشجوا رأسه، وكسروا رباعيته، ورموه بالحجارة، وحصروه حتى وقع على شقه، وسقط في حفرة من الحفر التي حفرها أبو عمر الفاسق، ونشبت حلقتان من حلق المغفر في وجهه، فانتزعهما أبو عبيدة حتى سقطت ثنيتاه، وحاول المشركون قتل رسول الله، فحال دونه نفر قليل من المسلمين قتلوا جميعًا، ثم جالدهم طلحة - رضي الله عنه - حتى ردهم عن رسول الله، وحمى أبو دجانة رسول الله بظهره، فكان النبل يقع على ظهر أبي دجانة وهو لا يتحرك.

 

وصرخ الشيطان عدو الله ورسوله بأعلى صوته: إن محمدًا قد قتل، فاغتم المسلمون لذلك غمًا شديدًا، حتى ألقى بعض المسلمين السلاح، فمر أنس بن النضر - رضي الله عنه - على بعض هؤلاء فقال: ما تنتظرون؟ فقالوا: قتل رسول الله، فقال: ما تصنعون في الحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات، ثم إنه استقبل المشركين - رضي الله عنه - ولقي في طريقه سعد بن معاذ - رضي الله عنه - فقال: واهًا لريح الجنة يا سعد، إني لأجد ريحها من دون أحد، فقاتل حتى قتل - رضي الله عنه -، ووجد به سبعون ضربة.

فأقبل رسول الله نحو المسلمين فصاح سعد بن معاذ - رضي الله عنه - بأعلى صوته: يا معشر المسلمين، أبشروا هذا رسول الله، فأشار إليه النبي أن اسكت، واجتمع إليه المسلمون ونهضوا معه إلى الشعب، فأراد رسول الله أن يعلو صخرة هناك فلم يستطع لما به، فجلس طلحة تحته حتى صعد رسول الله على ظهره، فقال رسول الله: ((أوجب طلحة)). وحانت الصلاة وهم على هذه الحال، فصلى رسول الله بأصحابه جالسًا، وقد أصاب الإعياء الفريقين، فانحاز كل فريق إلى معسكره.

وركبت قريش الإبل وجنبت الخيل مؤذنة بالرحيل، فلما دنا الرحيل أشرف أبو سفيان وصرخ بأعلى صوته: أفيكم محمد؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم ابن أبي قحافة؟ فلم يجيبوه، فقال: أفيكم عمر بن الخطاب؟ فلم يجيبوه، فقال: أما هؤلاء فقد كفيتموهم؟ فلم يملك عمر نفسه أن قال: يا عدو الله، إن الذين ذكرتهم أحياء، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك، فقال أبو سفيان: قد كان في القوم مثلة ـ أي: تمثيل ـ لم آمر بها ولم تسؤني، ثم قال: اعلُ هبل، فقال رسول الله: ((ألا تجيبونه؟)) فقالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: ((الله أعلى وأجلّ))، ثم قال: لنا العزى ولا عزى لكم، فقال: ((ألا تجيبونه؟)) قالوا: ما نقول؟ قال: قولوا: ((الله مولانا ولا مولى لكم))، فقال أبو سفيان: يوم بيوم بدر، والحرب سجال، فأجابه عمر فقال: لا سواء، قتلانا في الجنة وقتلاكم في النار.

أيها الإخوة المؤمنون، هذه لمحة موجزة سريعة استعرضنا فيها طرفًا من أحداث تلك الوقعة التي كان فيها من البلاء والمحنة والفرح والألم ما وقفتم على شيء منه، وقد حفظته كتب السير، وذكره الله - تعالى -في كتابه في سورة آل عمران، فقال الله - تعالى -مخاطبًا رسوله الكريم والصحابة الذين كانوا معه: \" وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ  [آل عمران: 139] إلى آخر تلك الآيات التي قص الله فيها ما نزل بالمسلمين من النصب والوصب، فجزاهم الله عنا خير ما جزى قومًا عن أمتهم.

 

سلام من الرحمن في كل ساعة *** وروح وريحان وفضل وأنعم

 

لكل امرئ منهم سلام يخصه *** يبـلغه الأوفى إليه وينعـم

 

----------------------------------------

[1] أخرجه أحمد (5093)، وابن أبي شيبة في المصنف (4/212).

 

الخطبة الثانية:

أما بعد: فيا أيها المؤمنون، إن هذه الوقعة مع ما وقع فيها من الكوارث والنكبات، وما حوته من النوازل والأزمات، إلا أنه يصدق فيها قوله - تعالى -: \" لا تَحسَبُوهُ شَرًّا لَكُم بَل هُوَ خَيرٌ لَكُم \" [النور: 11].

فإن هذه الوقعة فيها من الدروس والعبر والمواعظ والحكم شيء كثير، ذكره الله - تعالى -في كتابه عند ذكر هذه الغزوة في سورة آل عمران، وإليكم بعض هذه الدروس.

فمن تلك العبر والدروس في غزوة أحد ذلك الدرس الذي تجده ظاهرًا في جميع فصول هذه الغزوة وأحداثها، ألا وهو الابتلاء، فإن ابتلاء الله - تعالى -للمؤمنين سنة ماضية وراسخة، فيه من الفوائد والحكم ما لا يحصل بالعافية والأمن، فعلى رغم أن البلاء في هذه الغزوة كان مريرًا قاسيًا، إلا أن الله عاتب بعض من استنكر ذلك فقال - تعالى -: \" أَم حَسِبتُم أَن تَدخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَعلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُم وَيَعلَمَ الصَّابِرِينَ \" [آل عمران: 142]، فمن ظن أن الجنة تحصل له بأبخس الأثمان وأضعف الأعمال فقد أخطأ الحسابº إذ لا بد للجنة من مهر يقدمه العبد في هذه الدنيا، به يتميز الأولياء من الأدعياء، فالبلاء يميز الصادق من الكاذب والمؤمن من المنافق، والبلاء يكشف عن معادن الرجال، كما قال الأول:

جزى الله الشدائد كل خير *** عرفت بها عدوي من صديقي

فإن الله لما ابتلى المسلمين بهذه النازلة أبدى المنافقون رؤوسهم، وتكلموا بما كانوا يكتمون، وظهرت مخبأتهم، وعاد تلويحهم تصريحًا، وانقسم الناس في هذه الغزوة إلى كافر ومؤمن ومنافق، وعرف المؤمنون أن لهم عدوًا في أنفسهم، فماز الله بذلك الخبيث من الطيب، قال الله - تعالى -: \" مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ المُؤمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُم عَلَيهِ حَتَّى يَمِيزَ الخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ \" [آل عمران: 179].

فعرف المؤمنون في هذه الغزوة ضعفهم، وبها عرفوا أعداءهم، وهذبهم بها، ومحص قلوبهم، وجعلها سببًا لبلوغ منازل ودرجات قضى في سابق حكمه أنها لهم، قصرت عنها أعمالهم فاتخذ منهم شهداء كتب لهم أعلى المنازل ورفعهم أعلى الدرجات.

كما أن الله - سبحانه وتعالى - هيأ بما حدث في هذه الغزوة من البغي والعدوان على أولياء الله - تعالى -وأحبابه وأصفيائه، هيأ بذلك أسباب محق أعدائهº فإن الله إذا أراد أن يهلك أعداءه قيض لهم الأسباب التي يستحقون بها الهلاك والمحق، ومن أعظم هذه الأسباب بعد الكفر بالله بغيهم وطغيانهم ومبالغتهم في أذى أوليائه، وتفننهم في محاربتهم وقتالهم والتسلط عليهم، كما قال الله - تعالى -في الحديث القدسي: ((من آذى لي وليًا فقد آذنته بالحرب))[1]. فإذا عتا أعداء الله على أوليائه وحزبه فإن ذلك من أمارات وعلامات قرب محق الله لهم، قال الله - تعالى -: \" إِن يَمسَسكُم قَرحٌ فَقَد مَسَّ القَومَ قَرحٌ مِثلُهُ وَتِلكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَينَ النَّاسِ وَلِيَعلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُم شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبٌّ الظَّالِمِينَ وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمحَقَ الكَافِرِينَ \" [آل عمران: 140، 141].

وما تشهده الأمة اليوم من تسلط الكفار وأشياعهم على حزب الله وأوليائه ما هو إلا إحدى علامات قرب محق الله لهؤلاء المعتدين. فالحمد لله الحكيم العليم الخبير.

وعلى ورثة الأنبياء من أهل العلم والدعوة وأهل الخير والصحوة أن يتقوا الله ويصبرواº فإن أجل الله قريب، وعليهم أن لا يضجروا إذا أصابهم أذى أو نزل بهم مكروهº فإن الله قد قال: \" كَتَبَ اللَّهُ لأَغلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيُّ عَزِيزٌ \"[المجادلة: 21] وقد صدق القائل:

لعل عتبك محمود عواقبه *** وربما صحت الأجسام بالعلل

والابتلاء مهما طالت مدته وامتد وقته واشتدت كربته وتوالت أحداثه وكثرت ضحاياه فإن عاقبته أن يرتفع وينكشف فإنه

مهما دجا الليل فالتاريخ أخبرنا *** أن النهار بأحشاء الدجى يثب

وينبغي لأولياء الله أن لا يهنوا ولا يذلوا لما نزل بهم من كرب أو حل بهم من ضيمº فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين، لا يرفعها انكسار عسكري ولا يزيلها ضعفه، بل الأمر كما قال الله - تعالى -لأوليائه بعد انقضاء هذه المعركة: \" وَلا تَهِنُوا وَلا تَحزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعلَونَ إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ \" [آل عمران: 139]، فإن ما أصابهم إنما هو في ذات الله - تعالى -، فعليهم أن يتجلدوا لأعدائهم والشامتين بهم، كما قيل:

وتجلٌّدي للشامتيـن أُريهمُ *** أني لريب الدهر لا أتضعضع

وعلى أولياء الله أن يعلموا أنه إذا كان البلاء يصيب الرسل ومن معهم مع صحة إيمانهم وصدق بذلهم وعظيم جاههم عند الله - تعالى - فإصابته لمن دونهم أولى وأحرى.

ومن الدروس الكبرى في هذه الواقعة كشف سوء عاقبة المعاصي وشؤمها على من قارفها، بل ويتعدى ذلك إلى المجتمع، ولا شك أن شؤم المعصية سيئ قبيح، وقانا الله وإياكم شر أنفسنا والهوى والشيطان. ويتضح هذا من خلال ما وقع من الرماة في هذه الغزوة، فإنهم لما خالفوا أمر رسول الله عاقبهم الله بما سمعتم في الخطبة الأولى.

 

----------------------------------------

[1] أخرجه البخاري (6502) من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply