بسم الله الرحمن الرحيم
الواقعة التاريخية حادثة مفردة تقع مرة واحدة ثم تنقضي ولا تتكرر.
وإذا كان الباحثون والمؤرخون يتفقون على وقوع الحادثة فإن تفسيرهم لها وتعليلهم لأسبابها ودوافعها يختلف باختلاف المنهج الذي ينتهجه كل منهم، متأثراً في ذلك بعقيدته وتكوينه الفكري والثقافي، وتصوراته التي ينطلق منها في النظر للحياة البشرية، ودور الإنسان في هذه الأحداث.
ولذلك كانت الدعوة إلى كتابة التاريخ البشري كله (من زاوية الرصد الإسلامية التي تقيس الإنجاز البشري بالمعيار الرباني، أي بمدى تحقيق الإنسان لغاية وجوده التي خلقه الله من أجلها.. º لأن هذا التاريخ يقدَّم لنا من زوايا تختلف اختلافاً جذرياً عن زاوية الرصد الإسلامية، فلزم أن نعيد كتابته ليتناسق مع الرؤية الإسلامية المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - فتكون لنا وحدة في التصور تتناسب مع كوننا مسلمين ).
ولئن كان ذلك ضرورياً بالنسبة للتاريخ البشري عامة - خارج نطاق الأمة الإسلامية - فإن الضرورة أشد والحاجة أكثر دينياً ومنهجياً لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي خاصة.
-2-
والكتاب الذي نعرضه قديم جديد، وهو للمفكر الإسلامي الأستاذ الداعية محمد قطب - حفظه الله - وبارك في عمره وجهده وجهاده - والكتاب ضميمة جديدة مكملة لما سبقه من أبحاث وكتب، وقدمها الأستاذ محمد قطب - ذات صلة بالموضوع - مثل (واقعنا المعاصر) و (حول التفسير الإسلامي للتاريخ)..
أما إنه كتاب قديم، فلأنه (كان مكتوباً منذ خمسة عشر عاماً على الأقل، إن لم يكن أكثر، ولم يُقدَّر له أن يُنشر خلال المدى الطويل، لأنه كان في حاجة إلى مراجعة أخيرة ).
وأما إنه كتاب جديد، فلأنه يُنشر لأول مرة في طبعته الأولى منذ العام 1412هـ نشرتين متزامنتين، صدرت إحداهما عن (دار الأفق) بالرياض، والأخرى عن (دار الشروق) بالقاهرة [1].
-3-
وكتابنا هذا (كيف نكتب التاريخ الإسلامي؟ ) يتضمن الصورة الأخيرة لتفكير الأستاذ محمد قطب في موضوع كتابة التاريخ الإسلامي، ويقدم منهجاً إسلامياً وإطاراً للفكرة ذاتها.
وهو يشعر جيداً - منذ البداية - بضخامة هذه المهمة وخطرها، ومدى الجهد اللازم لإنجازها.
فهي أضخم من أن تكون جهد أفراد متفرقين في جيل من أجيال المسلمين، إنما تحتاج إلى جهد جماعي منظم تقوم به مؤسسات متخصصة على مدى قد يمتد بضعة أجيال..
ومع ذلك فلابد من القيام بهذا العمل، رغم المشقة البالغة فيه، لأنه ما من أمة تستطيع أن تعيش بلا تاريخ ممحص محقق ميسر التناول على جميع المستويات..
ولذلك يدلي الأستاذ محمد قطب بدلوه المتواضع (كما يصفه فضيلته) في أمر المنهج الذي ينبغي أن تعاد على أساسه كتابة التاريخ الإسلامي، ومما نقتطف منه مقتطفات سريعة، لعلها تلقي ضوءاً في مراجعة عامة للكتاب، والله الموفق.
-4-
هناك عدة ملاحظات في أكثر من اتجاه، تجعلنا نلح على ضرورة إعادة كتابة التاريخ الإسلامي: * فإذا نظرنا إلى المصادر الإسلامية القديمة، نجد فيها ذخيرة ضخمة من الأخبار والوقائع والروايات، تصلح زاداً للمتعمق، ولكنها - بصورتها الراهنة - لا تصلح للقارئ المتعجل الذي يريد خلاصة جاهزة ممحصة، سهلة الاستيعاب والهضم..
* وإذا نظرنا، من ناحية أخرى، إلى معظم المراجع الحديثة المتأثرة بالمنهج الاستشراقي، نجدها مكتوبة بصورة جذابة مغرية بالقراءة من ناحية الشكل، ولكن عيبها من الناحية المنهجية أن أغلبها بعيد عن الأمانة العلمية الواجبة، ملون تلويناً لتحقيق هدف معين، تكنّه صدور لا تحب الخير لهذا الدين.
* وسواء أكانت هذه المراجع من تأليف المستشرقين مباشرة، أو من تأليف تلاميذهم، فإن هذا العيب المنهجي الخطير يجعل مراجعهم غير صالحة للاستمداد منها، ويجعل إعادة النظر فيما تناولته من وقائع وتفسيرات - أمراً بالغ الأهمية..
* وهناك عيب رئيسي آخر في تلك الكتابات والمناهج بصفة عامة هو التركيز على التاريخ السياسي للمسلمين على حسساب نجقية مجالات الحياة الإسلامية: العقَدية والفكرية، والحضارية، والعلمية والاجتماعية..
إلخ، وذلك يعطي صورة مشوهة ممسوخة! وذلك أن تقسيم التاريخ إلى مراحل سياسية، والحديث عن كل مرحلة، كأن هناك حدوداً فاصلة في مجرى التاريخ كله تفصل بين عهد وعهد، وتجعل كل عهد قائماً بذاته - هذا المنهج يقطع التواصل التاريخي بين أجيال هذه الأمة، كأنما لم تكن أمة واحدة متصلة، وكأنما لم تكن بالذات هي (الأمة الإسلامية).
* وأمر آخر من أمور الدلالات التاريخية نفتقده حين يغيب عنا المنهج الصحيح لدراسة تاريخ الأمة الإسلامية هو: علاقة أوضاع هذه الأمة - في خصوصيتها التي أخرجها الله من أجلها - بأوضاع البشر على اتساعها..
-5-
ولذلك فحين نعيد كتابة التاريخ الإسلامي ينبغي أن نوجه انتباهنا إلى أن التاريخ ليس مجرد أقاصيص تُحكى، ولا هو مجرد تسجيل للوقائع والأحداث..
إنما يدرس التاريخ للعبرة، ويدرس للتربية.
وكل أمة تصوغ تاريخها بحيث يؤدي مهمة تربوية في حياتها.
وهذا ما نفتقده في الكتابات المعاصرة لتاريخنا!، التي تشتت ولاء المسلم وتجعله متذبذباً بين الإسلام وتلك الجاهليات التي يبعثها المستشرقون..
فينبغي - إذن - كتابة التاريخ الإسلامي بحيث تؤدي مهمة تربوية في تخريج أجيال مسلمة تعرف حقيقة دينها وتتمسك به، وتعمل على إحيائه في نفوسها وفي واقعها..
-6-
* وفي سبيل تحقيق هذا الهدف التربوي علينا أن نبرز جملة من المعاني في تاريخ الأمة الإسلامية، لا نجدها بارزة المعالم في كثير من الدراسات المستحدثة على وجه الخصوص: 1 - أن التوحيد هو النعمة الكبرى التي أضفاها الله على هذه الأمة، وهو الهدف الأكبر الذي أُخرجت هذه الأمة من أجله، وكُلفت بنشره في الأرض، التوحيد بمعناه الكامل الشامل الذي يعمل في مساحة واسعة تشمل الحياة كلها.
2- يجب أن نتبين من دراسة التاريخ أن التوحيد حركة تحريرية شاملة للإنسان كله، وللحياة من كل جوانبها..
وأنه الذي أنشأ أمة فريدة في التاريخ تجتمع على أساس العقيدة، التي تليق أن يجتمع الناس حولها وعليها.
3- وأن نتبين كذلك أن حركة الفتح الإسلامي كانت حركة فريدة تختلف عن كل الحركات التوسعية في تاريخ الأمم كلها، من حيث الهدف والآثار.
4- ثم تولدت عن حركة التوحيد الكبرى حركة علمية وحركة حضارية متميزة.
* هذا كله بعض ما ينبغي إبرازه في إعادة كتابة تاريخ الأمة الإسلامية في عصر صدر الإسلام.
ومرحلة المد الإسلامي، فإذا درسنا فترة الانحسار فيجب أن ننظر فيها إلى جملة من العوامل الداخلية النفسية، وهي تعطينا الأسباب الحقيقية للانحسار الذي نشأ عن بُعد هذه الأمة عن مصدر قوتها وعزتها، وعندئذ زال التمكين لها، وكانت سنة الله في تمكين غيرها لأمد.
* وفي الجولة الأخيرة من حياة هذه الأمة (واقعنا المعاصر) ينبغي التنبه إلى أمور كثيرة في كتابة تاريخها لكثرة ما دُسَّ فيها من عوامل التشويه والتوجهات السامة التي يقصد بها التدمير، كالإيحاء بأن الإسلام قد استنفد أغراضه، وأن اتخاذ الحضارة العلمانية منهجاً للحياة هو طريق الإنقاذ وسبيل التقدم! وكذلك إبراز التيارات الهدامة الوافدة مع الغزو الفكري، من وطنية وقومية واشتراكية، وتمجيد أصحابها وتصويرهم بصورة الأبطال مع إهمال البطولة الحقة في تاريخنا الإسلامي، وأخيراً: تصوير الصحوة الإسلامية على أنها الخطر الداهم الذي سيؤدي بالعالم إلى الدمار..
-7-
تلك أمور تدعو لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي من جديد، وفي فصول الكتاب تفصيل وتطبيق للمنهج الذي أقام معالمه الأستاذ محمد قطب، ولذلك جاء الحديث عن (الجاهلية) و (الإسلام) و (البعثة وصدر الإسلام) ثم (المد الإسلامي) ودراسة (بدء الانحسار) لأخذ العبرة لتكون زاداً على طريق (الصحوة الإسلامية) التي تبشر بتحقيق وعد الله - سبحانه - لهذه الأمة بالتمكين والنصر عندما تفي بشرط ذلك كله، ثم يغلق الكتاب بهذه العبارة المتفائلة التي تصدر عن إيمان عميق بوعد الله - سبحانه - وبشارة نبيه - صلى الله عليه وسلم -: وهو يستشرف المستقبل الزاهر: (وذات يوم - مقدَّر في علم الله - ستأتي الجولة الممكّنة للإسلام، التي بشر بها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (وَيَومَئِذٍ, يَفرَحُ المُؤمِنُونَ * بِنَصرِ اللهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ العَزِيزُ الرَّحِيمُ * وَعدَ اللهِ لا يُخلِفُ اللهُ وَعدَهُ وَلَكِنَّ أَكثَرَ النَّاسِ لا يَعلَمُونَ) [الروم: 4-6]).
-8-
وبعد..
فإنه كتاب جدير بالقراءة، بل جدير بالدراسة المتأنية العميقة، ولعل أصحاب الاختصاص من كُتاب التاريخ الإسلامي يبدون رأيهم في هذا المنهج ككتابة التاريخ الإسلامي، فقد يضيفون جديداً أو يستدركون فكرة، أو يؤيدون صواباً.
ونسأل الله - تعالى - أن يبارك في جهد المؤلف، وأن ينفع به وبعلمه، وأن يهيئ له من الأسباب لإنجاز ما وعد به من كتب تالية، وأن يتقبلها عنده.
(1) وأجد هذا مناسباً للإشارة إلى ملاحظة غاية في الأهمية، في طريقه الأستاذ ومنهجه في الكتاب والتأليفº فهو يتأنى ويتأنق في كتبه، فيكتبها بعد أن تنضج الفكرة ثم يراجعها ويعيد مراجعتها وقد يتوقف الكتاب عن النشر سنوات تبلغ عِقدين أو ثلاثة - يُصدر أثناءها عدداً من الكتب والدراسات - لأنه يحتاج إلى مراجعة أو إضافة وهذا يعني أنه يخرج للقراء كتاباً ناضجاً، وبحثاً نافعاً، يمكث في عقول الناس وقلوبهم، كما يحتل مكانه اللائق في مكتباتهم ولعل في ذلك درساً لأصحاب الزبد من الكتب، الذين يتطلعون لإصدار كتاب جديد كل شهر، ليضربوا بذلك رقماً قياسياً في عدد المؤلَّفات والمنشورات!، يسودون أوراقاً يزعمونها تأليفاً، ثم يقذفون بها لتخرج كتاباً (خديجاً)، لا غَناء فيه ولا خير، وإن كان فهو غناء قليل! والكتب كالإبل، مائة لا تجد فيها راحلة، وهذه الكتب مائة لا تجد فيها كتاباً!.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد