بسم الله الرحمن الرحيم
[1]
ليس من مهمة هذا البحث متابعة المعطيات الفقهية الخصبة والمتميزة بصدد التعامل مع الآخر، وإنما التأشير على بعض الممارسات التاريخية كشواهد فحسب، من بين سيل من الوقائع لا يكاد يحصيها عدّ، تؤكد فيما لا يدع أي مجال للشك في أن النصارى واليهود من أهل الكتاب، وغيرهما من الفرق الدينية الأخرى، عاشوا حياتهم، ومارسوا حقوقهم الدينية والمدنية على مداها في ديار الإسلام، فيما لم تشهده ولن تشهده أية تجربة تاريخية في العالم.
إن التاريخ هو الحكم الفصل في قدرة المذاهب والأديان على التماسّ مع الواقع، وتحويل \"الكلمة\" إلى فعل منظور.
ابتداءً.. ما الذي أرادت التأسيسات القرآنية أن تقوله فانعكس ـ بالتالي ـ في نسيج الفعل التاريخي بين المسلم وغير المسلم؟
إن التغاير والاختلاف قائمان في صميم العلاقات البشرية، والتوحّد في وجوهه كافة لا ينفي التغاير، كما أن هذا لا ينفي التوحّد، إنهما يتداخلان ويتوازيان ويؤثر أحدهما في الآخر، بل قد يرفده بعناصر القوة والخصب والنماء. قد تحدث حالات تقاطع تقود أحياناً إلى النفي والتعارض، لكن الخط الأكثر عمقاً وامتداداً هو أن التجربة البشرية من لحظات تشكلها الأولى وحتى يقوم الحساب، إنما هي تجربة تتعدد فيها الانتماءات وتتغير العلاقات وتتنوع القناعات، وأن هذا التغاير في حدوده المعقولة، ومن خلال تعامله مع الثوابت التوحيدية، هو الذي يمنح التاريخ البشري، ليس فقط تفرده وخصوصيته، وإنما قدرته على الفعل والصيرورة.
في المنظور القرآني يبدو التنوع مستقطباً عبر مجراه الطويل بكلمتي الإيمان والكفر، أو الحق والباطل، ترفده جداول وأنهار متشابكة تجيء من هذا الصوب أو ذاك، ومن خلال هذا التغاير تتحرك مياه التاريخ فلا تركد ولا تأسن، وتحفظ بهذا قدرتها على التدفق والنقاء.
إن الإرادة الحرة والاختيار المفتوح اللذين مُنحا للإنسان فرداً وجماعة، للانتماء إلى هذا المذهب أو ذاك، يقودان بالضرورة إلى عدم توحد البشرية وتحوّلها إلى معسكر واحد.. إن قيمة الحياة الدنيا وصيرورتها المبدعة تكمن في هذا التغاير، وإن حكمة الله - سبحانه - شاءت ـ حتى بالنسبة للكتلة أو المعسكر الواحد ـ أن تشهد انقساماً وتغايراً وتنوّعاً وصراعاً.
والقرآن الكريم يحدثنا عن هذا التغاير في أكثر من صورة ووفق أشد الصيغ واقعية ووضوحاً: (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً، ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات) [المائدة: 48]، (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود: 118ـ 119]
(تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض... )[البقرة: من الآية 253]، (... ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات، ولكن اختلفوا، فمنهم من آمن ومنهم من كفر، ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد) [البقرة: من الآية 253].
بل إن القرآن انطلاقاً من منظوره الواقعي لحركة التاريخ البشري، يبين في أكثر من موضع أن (الأكثريات) البشرية تقف دائماً بمواجهة الحق الذي لا تنتمي إليه إلاّ القلة الطليعية الرائدة، نظراً لما يتطلبه هذا الانتماء من جهد وتضحية وعطاء لا يحتملها الكثيرون: (بل جاءهم بالحق وأكثرهم للحق كارهون) [المؤمنون: 70].
وكثيراً ما يكون اختلاف الألسنة والألوان، الذي يعقبه تغاير الثقافات وتعدد الأعراق، أحد العوامل الأساسية التي تكمن وراء التنوع التاريخي الذي هو بحد ذاته صيغة من صيغ الإبداع الإلهي في العالم: (ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم إذا أنتم بشر تنتشرون)[الروم: 20].
(ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين) [الروم: 22].
أما عن الهدف من وراء هذا التغاير فإن القرآن يجيب: (... ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض، ولكن الله ذو فضل على العالمين) [البقرة: 251].
(ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيراً، ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز) [الحج: 40].
تلك هي الأمور الأساسية، إن هذا التغاير والتدافع المركوز في جبلة بني آدم يقود إلى (تحريك) الحياة نحو الأحسن، وتخطي مواقع السكون والفساد، ومنح القدرة للقوى الإنسانية الراشدة كي تشد عزائمها قبالة التحديات، وأن تسعى لتحقيق المجتمع المؤمن الذي ينفذ أمر الله وكلمته في العالم.
وثمة آيات أخرى تبين كيف أن هذا التغاير الذي يعقب تدافعاً وصراعاً إنما هو ميدان حيوي للكشف عن مواقف الجماعة البشرية، والتعرف على أصالة المؤمنين. ففي جحيم القتال، وعلى وهجه المضيء يتضح الذهب من التراب، ويتميز الطيب من الخبيث، وتتحول التجربة إلى منخال كبير يسقط، وهو يتحرك يميناً وشمالاً، كل الضعفة والمنافقين والعاجزين والمتردّدين في مواصلة الحركة صوب المصير المرسوم: (ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوا أخباركم) [محمد: 31]، (ليميز الله الخبيث من الطيب، ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعاً فيجعله في جهنم، أولئك هم الخاسرون). [الأنفال: 37].
وما أكثر ما يتساءل الإنسان عن الحكمة من التقاتل، وما أكثر ما تخيل الفلاسفة والمفكرون عالماً لا يشهد قتالاً ولا تُسفك في ساحته الدماء، ولكن هيهات ما دامت المسألة مرتبطة في جذورها بالوجود البشري المتغاير المتنوع. ولا يزال الصراع أمراً لا مفر منه إذا ما أريد للحياة الإنسانية أن تتحرك وتتقدم وتتجاوز مواقع السكون والفساد: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم، وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم، وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم، والله يعلم وأنتم لا تعلمون) [البقرة: 216].
إلا أن القرآن ـ وهو يتحدث عن الصراع الناجم عن التغاير البشري في المذاهب والأجناس واللغات والمصالح والبيئات الجغرافية ـ لا يقصر المسألة على التقاتل والتدافع، إنما يمدها إلى ساحة أوسع، ويعطي للتغاير البشري آفاقاً بعيدة المدى، تبدأ بإشهار السلاح، وتمتد لكي تصل إلى الموقف الأكثر إيجابية، والذي يجعل هذا التغاير سبباً لعلاقات إنسانية متبادلة بين الأمم والأقوام والشعوب للتقارب والتعاون والتعارف، مع بقاء كل منها على مذهبه أو جنسه أو لونه أو لغته أو بيئته الجغرافية: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله اتقاكم، إن الله عليم خبير) [الحجرات: 13].
[2]
وجاء تاريخنا الإسلامي لكي يمنح مساحة واسعة للتغاير، وقبول الآخر، والتحاور معه.. والوقائع في هذا السياق كثيفة جداً، ولذا سنكتفي بالتأشير على بعضها.
فمنذ بدايات مبكرة قدم عصر الرسالة إزاء أهل الذمة، يهوداً ونصارى، موقفاً منفتحاً رسمت من خلاله تقاليد العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين، ووُضعت أصولها ونُظّمت صيغها، وعندما مضت حركة التاريخ صوب العصور التالية مضت معها هذه التقاليد والأصول والصيغ تعمل في مجرى العلاقات الاجتماعية، وما حدث بين الحين والحين من خروج عليها فإنه لم يتجاوز أن يكون شذوذاً على القاعدة ازدادت تأكيداً بمرور الأيام.
ما الذي أراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يقوله وينفذه إزاء غير المسلمين من أهل الكتاب؟ إن بمقدور القارئ أن يرجع إلى كتب السيرة للعثور على الجواب الشامل بجزئياته وتفاصيله(1)، ولكننا نود أن نشير مجرد إشارة إلى العهد الذي كتبه الرسول - صلى الله عليه وسلم - في أعقاب غزوة تبوك عام 9 هـ لنصارى نجران، ذلك العهد الذي يمثل قمة من قمم العدل والسماحة والحرية، والذي لم يفرض عليهم فيه سوى جزية عينية متواضعة، وقد جاء فيه: \" ولنجران وحاشيتهم جوار الله... ومن سأل منهم حقاً فبينهم النصف غير ظالمين ولا مظلومين... ولا يُؤاخذ أحد منهم بظلم آخر. وعلى ما في هذه الصحيفة جوار الله وذمة النبي - صلى الله عليه وسلم - أبداً، حتى يأتي الله بأمره إن نصحوا وأصلحوا فيما عليهم\"(2)، وقد دخل يهود نجران في هذا الصلح(3).
كما نود أن نشير إلى العهود التي كتبها لعدد من التجمعات اليهودية في شمال الجزيرة، بعد غزوة خيبر (7 هـ) والسنين التي تلتهاº إذ بعث إلى بني جنبة بمقنة القريبة من أيلة على خليج العقبة: \"أما بعد، فقد نزل علي رسلكم راجعين إلى قريتكم، فإذا جاءكم كتابي هذا فإنكم آمنون لكم ذمة الله وذمة رسوله، وإن رسول الله غافر لكم سيئاتكم وكل ذنوبكم، لا ظلم عليكم ولا عدى، وإن رسول الله جاركم مما منع منه نفسه.. وإن عليكم ريع ما أخرجت نخلكم وصادت عروككم (مراكبكم) واغتزل نساؤكم، وإنكم برئتم بعد من كل جزية أو سخرة، فإن سمعتم وأطعتم فإن على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يكرم كريمكم ويعفو عن مسيئكم، وأن ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم أو من أهل رسول الله... \". وكتب لجماعة أخرى من اليهود تدعى (بني غاديا): \"... إن لهم الذمة وعليهم الجزية ولا عداء\"، كما كتب لبني عريض كتاباً آخر يحدد فيه ما عليهم أن يدفعوا للمسلمين لقاء حمايتهم لهم وعدم ظلمهم إياهم(4).
وكتب لأهل جرباء وأذرح من اليهود: \"إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وأن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل عليهم بالنصح والإحسان للمسلمين، ومن لجأ إليه من المسلمين\"(5) وبذلك تمكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تحويل هذه التجمعات اليهودية إلى جماعات من المواطنين في الدولة الإسلامية يدفعون لها ما تفرضه عليهم من ضرائب نقدية أو عينية، ويحتمون بقوتها وسلطانها، ويتمتعون بعدلها وسماحتها. ولقد ظل اليهودـ والنصارى بطبيعة الحال ـ كمواطنين وليسوا كتلاً سياسية أو عسكرية ـ يمارسون حقوقهم في إطار الدولة الإسلامية لا يمسسهم أحد بسوء، وعاد بعضهم إلى المدينة، بدليل ما ورد عن عدد منهم في سيرة ابن هشام وفي مغازي الواقدي. وهناك الكثير من الروايات والنصوص التاريخية التي تدل على أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - كان يعامل اليهود بعد غزوة خيبر بروح التسامح، حتى إنه أوصى عامله معاذ بن جبل: \"بأن لا يفتن اليهود عن يهوديتهم\"، وعلى هذا النحو عومل يهود البحرينº إذ لم يُكلّفوا إلا بدفع الجزية، وبقوا متمسكين بدين آبائهم(6). وجاء الراشدون لكي يشهد المجتمع الإسلامي تنفيذاً في العلاقات الإنسانية بين المسلمين وغيرهم لا يقل تفرداً وتألقاً عما شهده عصر الرسالة. فلقد كان العصر الجديد عصر الفتوح والامتداد الإسلامي في مشارق الأرض ومغاربها، وكانت مساحات واسعة من الأراضي التي بلغها الإسلام تضم حشوداً كبيرة من اليهود والنصارى والمجوس والطوائف الدينية الأخرى. لقد أصبح المجتمع الإسلامي بحركة الفتح هذه مجتمعاً عالمياً ضم جناحيه على أعداد كبيرة من الأجناس والأديان والأقوام والجماعات والمذاهب والفرق والاتجاهات، ونريد أن نعرف كيف تم التعامل معها عبر عمليات الفتح أولاً، وبعد استقرار الوجود الإسلامي ثانياً، وهل تمكن المسلمون من الاستجابة لتحديات التنوع المذهبي في مجتمعهم العالمي الجديد؟
يقول السير (توماس أرنولد) الذي سنعتمد على عدد من شهاداته بهذا الصدد في كتابه المعروف: (الدعوة إلى الإسلام The Preaching to Islam) الذي يتضمن تحليلاً مدعماً بالوثائق والنصوص للصيغ الإنسانية التي اتبعها الإسلام في تعامله مع أبناء المذاهب الأخرى.
\"... لما قدم أهل الحيرة المال المتفق عليه ذكروا صراحة أنهم إنما دفعوا هذه الجزية على شريطة \"أن يمنعونا وأميرهم البغي من المسلمين وغيرهم\"، وكذلك حدث أن سجل خالد في المعاهدة التي أبرمها أهالي المدن المجاورة للحيرة قوله: \"فإن منعناكم فلنا الجزية وإلا فلا\". ويمكن الحكم على مدى اعتراف المسلمين الصريح بهذا الشرط من تلك الحادثة التي وقعت في حكم الخليفة عمر: لما حشد الإمبراطور هرقل جيشاً ضخماً لصد قوات المسلمين كان لزاماً على المسلمين - نتيجة لما حدث - أن يركزوا كل نشاطهم في المعركة التي أحدقت بهم. فلما علم بذلك أبو عبيدة قائد العرب كتب إلى عمال المدن المفتوحة في الشام يأمرهم أن يردوا عليه ما جُبي من الجزية من هذه المدن، وكتب إلى الناس يقول: \" إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه بلغنا ما جمع لنا من الجموع، وإنكم قد اشترطتم علينا أن نمنعكم، وإنا لا نقدر على ذلك، وقد رددنا عليكم ما أخذنا منكم ونحن لكم على الشرط، وما كتبنا بيننا إن نصرنا الله عليهم\"، وبذلك رُدّت مبالغ طائلة من مال الدولة، فدعا المسيحيون بالبركة لرؤساء المسلمين وقالوا: \"ردكم الله علينا ونصركم عليهم ـ أي على الروم ـ فلو كانوا هم لم يردوا شيئاً وأخذوا كل شيء بقي لنا\"(7).
\" يكشف تاريخ النساطرة عن نهضة رائعة في الحياة الدينية وعن نواحي نشاطهم منذ أن صاروا رعية للمسلمين. وكان أكاسرة الفرس يدللون هذه الطائفة تارة ويضطهدونها تارة أخرىº إذ كان السواد الأعظم من أفرادها يقيمون في ولايات هؤلاء الأكاسرة، بل مرّوا بحياة أشد من هذه خطورة، وخضعوا لمعاملة خشنة قاسية حين جعلتهم الحرب بين فارس وبيزنطة عرضة لشك الفرس فيهم، بأنهم كانوا يمالئون أعداءهم من المسيحيين. ولكن الأمن الذي نعموا به في بلادهم في عهد الخلفاء قد مكنهم من أن يسيروا قدماً في سبيل أعمالهم التبشيرية في الخارج، فأرسلوا البعوث الدينية إلى الصين والهند، وارتقى كل منهم إلى مرتبة المطرانية في القرن الثامن الميلادي. وفي العصر نفسه تقريباً رسخت أقدامهم في مصر، ثم أشاعوا فيما بعد العقيدة المسيحية في آسيا، حتى إذا جاء القرن الحادي عشر كانوا قد جذبوا عدداً كبيراً ممن اعتنقوا المسيحية من بين التتار. وإذا كانت الطوائف المسيحية الأخرى قد أخفقت في إظهار مثل هذا النشاط القوي، فليس هذا الإخفاق خطأ المسلمينº إذ كانت الحكومة المركزية العليا تتسامح مع جميعهم على السواء، وكانت فضلاً عن ذلك تصدهم عن أن يضطهد بعضهم بعضاً. وفي القرن الخامس الميلادي كان (برصوما)، وهو أسقف نسطوري، قد أغرى ملك الفرس بأن يدبر اضطهاداً عنيفاً للكنيسة الأرثوذكسية، وذلك بإظهار نسطور بمظهر الصديق للفرس، وإظهار مبادئه بأنها أكثر ميلاً إلى مبادئهم.
\" ويُقال: إن عدداً يبلغ (7800) من رجال الكنيسة الأرثوذكسية مع عدد ضخم من العلمانيين، قد ذُبحوا في هذا الاضطهاد. وقام خسرو الثاني باضطهاد آخر للأرثوذكس بعد أن غزا هرقل بلاد فارس، وذلك بتحريض أحد اليعاقبة الذي أقنع الملك بأن الأرثوذكس سوف يظهرون بمظهر العطف والميل إلى البيزنطيين. ولكن مبادئ المسلمين على خلاف غيرهمº إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس. مثال ذلك أنه بعد فتح مصر استغل اليعاقبة فرصة إقصاء السلطات البيزنطية ليسلبوا الأرثوذكس كنائسهم، ولكن المسلمين أعادوها أخيراً إلى أصحابها الشرعيين بعد أن دلل الأرثوذكس على ملكيتهم لها\"(8).
\"ومما يدل على أن تحوّل المسيحيين إلى الإسلام ـ في مصر ـ لم يكن راجعاً إلى الاضطهاد، ما وقفنا عليه من الشواهد التاريخية الأصلية، وهو أنه في الوقت الذي شغر فيه كرسي البطريركية تمتع المسيحيون بالحرية التامة في إقامة شعائرهم، وسُمح لهم بإعادة بناء كنائسهم، بل ببناء كنائس جديدة، وتخلّصوا من القيود التي حتمت عليهم أن يركبوا الحمير والبغال، وحوكموا في محاكمهم الخاصة، على حين أُعفي الرهبان من دفع الجزية ومُنحوا امتيازات معينة\"(9).
---------------------------------------
(1) ينظر: عماد الدين خليل: دراسة في السيرة، ط15، دار النفائس، بيروت ـ 1997م، الفصلان الثامن والتاسع.
(2) محمد بن سعد (ت 230 هـ) كتاب الطبقات الكبرى، تحقيق ادوارد سخاو ورفاقه، مصور عن طبعة ليدن، بريل ـ 1325 هـ (بدون تاريخ) 1/2/36، 84 ـ 85، أحمد بن يحيى البلاذري (ت 279 هـ)، فتوح البلدان، تحقيق صلاح الدين المنجد، مكتبة النهضة، القاهرة 1957 م، 1/76 ـ 78، أحمد بن واضح اليعقوبي (ت 282 هـ)، تاريخ اليعقوبي، تحقيق محمد صالح بحر العلوم، المكتبة الحيدرية، النجف ـ 1964 م، 2 / 71 ـ 72.
(3) البلاذري: فتوح البلدان 1 / 78.
(4) ابن سعد: الطبقات 1/2/28 ـ 30.
(5) المصدر نفسه 1 / 2 / 38.
(6) عماد الدين خليل: دراسة في السيرة ص 358.
(7) الدعوة إلى الإسلام، ترجمة وتعليق حسن إبراهيم حسن ورفاقه، ط3 مكتبة النهضة، القاهرة ـ 1971، ص 79.
(8) المرجع نفسه، ص 86 ـ 88.
(9) المرجع نفسه، ص 130.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد