خواص الأمة يهزون الشدائد... وقائدهم تهابه الهزائم
قال ابن كثير في تاريخه (البداية والنهاية): \"نادى منادي أبي بكر الصديق من الغد من متوفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ليتم بعث أسامة: ألا لا يبقين بالمدينة أحد من جيش أسامة إلا خرج إلى عسكره بالجر\". [1]
ترى في أي الظروف صدر هذا التكليف إلى الأمة؟! إنه أمر قد صدر إلى رعية ملتاعة بفقد قائدها، مصدومة بموت رسولها، ولما تفق بعد من مصابها بفراقه. إن الأمر صدر إلى جند كانوا إلى الأمس القريب يصلون الليل بالنهار في معارك مريرة مع عدو مستكبر، يتربص بأمة الإسلام الدوائر، إنهم الروم الرابضون شمال الجزيرة يرومون زوال كيان المسلمين الناشئ، ويرقبون يوم سقوطه تحت أقدام جحافهم. والأمر الذي أصدره أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - لم يستطع أحد إلغاءه، حتى بعد أن تمرد أقوام فارتدوا عن الإسلام وتوسعت دائرتهم حتى عمت معظم جزيرة العرب، وكان الأمر محتاجاً إلى حشد كل الجهود نحو إعادة من ندَّ وتأديب من ارتد. وهذا ما جعل بعض المشفقين على الأمة يشيرون على أبي بكر بأن يدخر جيش أسامة لردع المرتدين، وبعد الفراغ منهم ينظر في إنفاذ هذا الجيش إلى حيث أراد الرسول - صلى الله عليه وسلم - إنفاذه قبل موته، أي إلى قتال الروم.
حكى هشام بن عروة عن أبيه قال: \"لما بويع أبو بكر وجمع الأنصار في الأمر الذي افترقوا فيه قال: ليتم بعث أسامة. وقد ارتدت العرب إما عامة وإما خاصة في كل قبيلة، ونجم النفاق واشرأبت اليهودية والنصرانية، والمسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية لفقد نبيهم - صلى الله عليه وسلم -، وقلتهم وكثرة عدوهم. فقال له الناس: إن هؤلاء جُل المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، وليس ينبغي لك أن تفرق عنك جماعة المسلمين. فقال: والذي نفس أبي بكر بيده، لو ظننت أن السباع تخطفني لأنفذت بعث أسامة كما أمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولو لم يبق في القرى غيره لأنفذت\". [2]
إن أبا بكر هو أبو بكر، لن يقف العجب بنا كثيراً أمام صلابته ورباطة جأشه، لأنه الصديق المزكى من خير البرية لقيادة الأمة الخيرية، ولكن العجب من هؤلاء الجند الذين ضمهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بنفسه إلى جيش أسامة قبل لحوقه - صلى الله عليه وسلم - بالرفيق الأعلى، كيف لانوا في يد أبي بكر رغم ما احتف بمهمتهم من ظروف قاسية، ربما تدفع كثيراً منهم إلى التردد في قبول أمر كثر الاعتراض عليه من كبار الصحابة قبل صغارهم! إنهم قبلوا الأمر على كل حال من القائد الجديد، فكان قبولهم يمناً وبركة أضيفت إلى اليمن والبركة التي تنزلت بسبب صدق الصديق ووفائه لخليله رسول الله - صلى الله عليه وسلم -. روى البيهقي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - ما حدث بسبب إنفاذ بعث أسامة: »وُجه أسامة، فجعل لا يمر قبيل يريدون الارتداد إلا قالوا: لولا أن لهؤلاء قوة ما خرج مثل هؤلاء من عندهم، ولكن ندعهم حتى يلقوا الروم، فلقوا الروم فهزموهم وقتلوهم، ورجعوا سالمين، فثبتوا على الإسلام\". [3]
ومثلما كان أبو بكر مصراً على إنفاذ هذا البعث فقد كان مصراً على أن يكون أسامة بن زيد قائداً للجيش، وهذا موقف آخر ينم عن حرفية في الامتثال - إن صح التعبير - وشفافية في الشعور بالمسؤولية. قال الحسن البصري: \"إن أبا بكر لما صمم على تجهيز جيش أسامة، قال بعض الأنصار لعمر: قل له فليؤمر علينا غير أسامة، فذكر له عمر ذلك، فيقال إنه أخذ بلحيته وقال: ثكلتك أمك يا ابن الخطاب، أؤمر غير أمير رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟ ثم نهض بنفسه إلى الجرف، فاستعرض جيش أسامة وأمرهم بالمسير، وسار معهم ماشياً وأسامة راكباً، وعبد الرحمن بن عوف يقود براحلة الصديق، فقال أسامة: يا خليفة رسول الله: إما أن تركب وإما أن أنزل، فقال: \"والله لست بنازل ولست براكب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله؟ \" ثم استطلق الصديق من أسامة عمر بن الخطاب - وكان مكتتباً في جيشه - فأطلق له، فلهذا كان عمر لا يلقاه بعد ذلك إلا قال: السلام عليك أيها الأمير\". [4]
إن أبا بكر الصديق - رضي الله عنه -، كان قائداً عظيماً ولاشك، ولكن عظمة القائد لا تكفي ما لم يكن قائداً لأمة جادة وجند مخلصين، لقد كان خاصة الصحابة ردءاً للأمة - بعون من الله - يهزون الشدائد ولا تهزهم، ويمنحون المحن خاصية المنح صقلاً وتصفية وجلاء، فلا تزيد معادنها بها إلا رونقاً وبهاءً. أما بركة الاتباع وصدق التوكل الذي درَّسَناه أبو بكر وجنوده، فليتنا نتعلم منه أن هذه القيم قد تغير مسارات الأحداث من حيث لا يدري الناس، فترفع الغمة عن الأمة في وقت أيقن أعداؤها بهلاكها، كما أن العكس صحيح، فقد تنقلت الأمور حيث يُتجاهل الاتباع، ويتجهم الناس لطاعة الرسول، وتنتفخ ذواتهم عجباً بالنفس وثقة بالذات وتيهاً بالقوة، فعندها تتغير الأحوال من سيئ إلى أسوأ في حلقات حالكة السواد، ولن نقول: اسألوا التاريخº بل نقول اسألوا الواقع الذي نعيشه الآن، وقبل الآن بزمان، وكم مرة انتصرت جيوش العرب والمسلمين في المعارك التي تدار تحت رايات التوكل على النفس، وحسن الظن بالذات، وشدة الحرص على اتباع مناهج الأعداء؟... وهل هزمت تلك الجيوش أو اندثرت وهي ترفع بإخلاص رايات الجهاد لإعلاء كلمة الله متبعة شريعة الله ومعظمة لهداية رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟!.
نسأل الله أن يبعث بعث أسامة في أرواحنا، وأن يفيض قبساً من توكل واتباع أبي بكر ومحبته للرسول في قلوبنا. آمين...
----------------------------------------
[1] - البداية والنهاية 6/307.
[2] - السابق 6/309.
[3] - البداية والنهاية 6/309.
[4] - السابق
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد