خطر بطانة السوء


 

بسم الله الرحمن الرحيم

كان سليمان بن عبد الملك، خليفة يلي حكم مملكة إسلامية مترامية الأطراف، تشمل أراضي أوسع من مساحة الولايات المتحدة الأمريكية في وقتها الراهن، وأوسع من أراضي الاتحاد السوفييتي في عهده البائد، ومع هذا كان يطمح إلى إدخال مزيد من الشعوب في دين الإسلام، فجرد الجيوش لفتح أوربا من جهتها الشرقية، من (القسطنطينية).

 

قال الذهبي - رحمه الله - يصف سليمان بن عبد الملك: \"قد كان سليمان ابن عبد الملك من أمثل الخلفاء، نشر علم الجهاد، وجهز مائة ألف براً وبحراً، فنازلوا جنود القسطنطينية، واشتد القتال والحصار عليها أكثر من سنة\" [1]. وقد ولى ابنه داود أمر قيادة جيوش المسلمين هناك. ويكفي هذا الرجل فخراًº أنه ولَّى الخلافة من بعده عمر بن عبد العزيز مخالفاً بذلك ما تعارف عليه بنو أمية من توارث الحكم بين الأبناء والإخوان... ومع هذا... لم يعدم هذا الحاكم الصالح - في ذلك العهد الصالح - من يستوقفه للنصيحة والنقد، بلسان لاذع، ومنطق جريء، فيضرب الناصح والمنصوح للدنيا أروع الأمثلة في العلاقة بين الحاكم ومحكوميه في الإسلام، من ذلك، أن رجلاً أعرابياً من أغمار الرعايا الذين يحكمهم سليمان دخل عليه، فقال: \"يا أمير المؤمنين، إني مكلمك بكلام، فاحتمله وإن كرهتهº فإن وراءه ما تحب إن قبلته. قال: قل. قال: يا أمير المؤمنين: إنه قد اكتنفك رجال، ابتاعوا دنياك بدينهم، ورضاك بسخط ربهم، خافوك في الله، ولم يخافوه فيك. خربوا الآخرة وعمروا الدنيا، فهم حرب للآخرة، سلم للدنيا... فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه، فإنهم لم يألوا الأمانة تضييعاً والأمة خسفاً، وأنت مسؤول عما اجترحوا، وليسوا بمسؤولين عما اجترحت، فلا تصلح دنياهم بفساد آخرتك، فإن أعظم الناس غبناً، بائع آخرته بدنيا غيره\". فقال سليمان: \"أما أنت، فقد سللت لسانك، وهو أقطع من سيفك\" فقال: \"أجل يا أمير المؤمنين، سللته لك لا عليك\".

 

فأعجب الخليفة سليمان من كلامه وقال له: هل لك من حاجة في ذات نفسك؟ قال: أما خاصة دون عامة فلا. ثم قام وخرج! [2]

 

إن هذا الرجل الذي جاء للخليفة بهذه الكلمات، لم يختر تلك الكلمات اعتباطاً أو اتفاقاً، إنما جاءه بها لأنها أولى ما يُنصح به الحاكم، ولأنها أول ما يتأثر به الحاكم. فالرجل جاء ليتحدث - بالفطرة - عن البطانة أمام رجل يحكم أكبر وحدة سياسية في عصره، وكلماته الصادقة هذه - وإن كانت عامة مجملة - إلا أنها تعبر عن حقيقة هامةº نطقت بها الشرائع، وسارت على نسقها الوقائع، وحدَّث بها التاريخ، تلك الحقيقة هي: أنه ليس هناك حاكم فرد، بالمعنى المطلق للفردية، فسياسات كل حاكم في الحقيقة إنما هي نتاج فكر ورأي طائفة من الناس معه، تشترك معه في التدبير والتفكير ما يفعل وما لا يفعل. ولهذا فإن مسؤولية الحاكم - وإن كانت هي الأكبر إلا أن هناك معه جمعاً حكمهم حكمه في الصلاح أو الفساد.

 

ولن يخلو أمر حاكم من التصاق تلك البطانة أو تلك به: يقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"ما استخلف خليفة إلا له بطانتان، بطانة تأمره بالخير وتحضه عليه، وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه، والمعصوم، من عصم الله\" [3]

 

فهناك دائماً (حكام) ونادراً ما يكون هناك (حاكم)، ولهذا كان حديث القرآن الغالب عن (فرعون وملئه)(فرعون وقومه) (فرعون وجنوده) (فرعون وأصحاب مشورته وبطانته). قال - تعالى -: ((إن فرعون وهامان وجنودهما كانوا خاطئين)) [القصص/8].

 

والرجل الأعرابي، حذر سليمان بن عبد الملك من أن يَهلِك ويُهلِك بسبب بعض البطانة حوله من الفاسدين، رغم وجود من هم أكثر منهم من العلماء والمصلحين الناصحين، ويكفي أن نعلم أن وزير سليمان بن عبد الملك، كان العالم الرباني الجليل (رجاء بن حَيوَة)، وكان مستشاره: الرجل النادر في الناس (عمر بن عبد العزيز) الذي أصبح فيما بعد: الخليفة الراشد الخامس!.

 

فما بال الأعرابي لو رأى حكاماً جاءوا من بعد، فاتخذوا بطانتهم كلها من أهل النفاق والزندقة، أو اليهود والنصارى والملحدين؟! لا يريدون فقط إفساد آخرة الحاكم من أجل دنياهم، بل يريدون إفساد دنيا ودين الأمة كلها من أجل مصالحهم الخاصة، أو مصالح أشياعهم.

 

هل يمكن وصف حال الحاكم الذي يتخذ بطانة من دون المؤمنين بشيء أبلغ من الخبال؟!.. لا.. فواقع الحال يدل على أنه ليس إلا الخبال.

 

قال - تعالى -: ((يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً، ودوا ما عنتم، قد بدت البغضاء من أفواههم، وما تخفي صدورهم أكبر، قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون)) [آل عمران/118]...

 

----------------------------------------

[1] - سير أعلام النبلاء ترجمة عمر بن عبد العزيز.

[2] - المصباح المضيئ لابن الجوزي انظر مختصر منهاج القاصدين ص 124.

[3] -البخاري ح (6611) الفتح 11/510.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply