ألَم يَأنِ ليوم عزِّنا أن ينتصرَ على يوم ذُلنا؟


 

           تمرٌّ على المسلمين، هذه الأيام، ذكرى يومين من أيام حياتهم البالغة الدلالة، ذكرى يومين سُطِّرا بمدادين متضادين: مدادٍ, أبيض ناصع، وآخر أسود فاحم.  الأول يوم الهجرة، يوم عز المسلمين بإقامة دولتهم في المدينة المنوّرة بقيادة رسول الله صلى الله عليه وسلم.  والثاني يوم ضياع دولة المسلمين بالقضاء عليها في استانبول على يد المجرم الطاغية مصطفى كمال في الثالث من آذار سنة 1924، وأعوانه من الخونة المجرمين، وأسياده من الكفار المستعمرين.

           يومان أحدهما يشد الأمة إلى أمجادها، والآخر يدخل الأمة في أعماق أحزانها. اليوم الأول يوم عز وبشرى، والثاني يوم حزن وذكرى وفي كل منهما عظة وعبرة.

           يستعيد المسلم في الأول بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتبليغ الدعوة في مكة المكرّمة، والصراع الفكري، والكفاح السياسي بين الدعوة الجديدة، دعوة الحق، وبين دعوة الجاهلية، دعوة الباطل. الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام في جانب، ورؤوس الكفر في الجانب الآخر ]هل يستويان مثلاًً[ (هود/24). ويستمر الصراع ويبلغ الأذى مداه، والمؤمنون خلف رسول الله  صلى الله عليه وسلم ثابتون على الحق، لا يخافون في الله لومة لائم، ويكون طلب النصرة وبيعة العقبة، وتآمر الكفار لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينجيه الله بفضله، ويأمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه بالهجرة، وإقامة الدولة، والجهاد في الله حق جهاده، ثم الفتح والفتوح، ونشر الخير والنور، ومحق الظلم والظلام.

           ويستعيد المسلم في الثاني تكالب الدول الكافرة وعملائها من الخونة، يستعيد تكالبهم على الخـلافة وأهلها، بالتضليل تارةً، وبالتقتيل أخرى، ويصل الحال إلى أن يجرؤ كافر خائن، على مرأى من المسلمين ومسمع، أن يعلن القضاء على الإسلام ونظامه، وعلى دار الإسلام والخـلافة، فيعود الظلام من جديد، وتعود دار الجاهلية في بلاد المسلمين، تبيض وتصفر، ويصبح المسلمون غثاءً كغثاء السيل تتداعى عليهم الأمم كتداعي الأكلة إلى قصعتها «تتداعى عليكم الأمم كتداعي الأكلة على قصعتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذٍ, يا رسول الله قال بل أنتم يومئذٍ, كثير ولكن غثاء كغثاء السيل وليقذفن الله في قلوبكم الوهن، قالوا وما الوهن يا رسول الله قال حب الدنيا وكراهية الموت» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم.

           هكذا هي الأيام، نهار وليل، فهي دول، يوم لك ويوم عليك. إلا أن سنة الله سبحانه اقتضت أن يكون اليومان على وفاق مع حال الأمة، وما هي له أهل ]فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى[ ، ]ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكاً[ (طه/123ـ124).

           فأَن تبذل الأمة الغالي والنفيس في سبيل الله، وأن تجاهد في الله حق جهاده بالمال والنفس، وهي تتطلع إلى رضوان الله لتفوز في الدنيا والآخرة، تنصر الله في السراء والعلن، هذه الأمة حقيقة بنصر الله سبحانه ]إن تنصروا الله ينصركم[ (محمد/7).

           وأن تتقاعس الأمة عن التطلع إلى الدرجات العلى، وتَثَّاقل إلى الأرض أو إلى باطن الأرض، ويصل الحال بها أن يتجرأ جندي في جيش الخـلافة أن يعلن القضاء على الخـلافة دون أن ترفع الأمة السيف في وجهه وتتخلص منه  ، فإنها تكون عندها حقيقةً بالذل والهوان والضعف والهزيمة.

           ليس عجيباً أن تكبو الأمة في فترات من حياتها، ولكن الغريب العجيب أن يستمر حالها وهي تكبو دون أن تنهض من جديد. إن الأمة الإسلامية أمة حيّة، والأمم الحية لا تقف عند الأحزان ولا تتغنى بالأمجاد، بل تعمل لإزالة الأحزان، وإعادة الأمجاد، فكيف إذا كانت هذه الأمة هي أمة الإسلام التي تتلو في كتاب الله سبحانه وعده بالاستخلاف في الأرض: ]وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً[ (النور/55)، وهي كذلك تقرأ في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أول دينكم نبوة ورحمة ثم تكون خلافة على منهاج النبوة ثم يرفعها الله إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً عاضّاً فتكون ما شاء الله لها أن تكون ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تكون ملكاً جبرياً فتكون ما شاء الله لها أن تكون، ثم يرفعها إذا شاء أن يرفعها، ثم تعود خلافة راشدةً على منهاج النبوة»، تتلو وتقرأ ذلك، وفي الوقت نفسه تدرك قول الله سبحانه: ]وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون[ (التوبة/105) فتعلم علم اليقين أن الخـلافة لا تعود دون عمل حثيث صادق مخلص، فيدفعها الوعد وتحفزها البشرى للمسارعة في العمل والجد فيه متسنِّمةً خطا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومستأنسةً بسيرة صحبه رضوان الله عليهم، بل إنها تدرك كذلك أنها إن لم تعمل بجد لإعادة الخـلافة فإن مِيتتها جاهلية ومصيرها مظلم وعاقبتها وخيمة، طيلة عمرها من بعد ثلاث ليالٍ, تمضي على عيشها دون خلافة.

           لقد مضى على يوم الأمة الثاني، يوم القضاء على خلافتها، عقود ثمانية، وهي تسام الذل والهوان، لا يخشاها عدو، ولا يحترمها صديق، أفلم يأن لها أن تعود سيرتَها الأولى، خير أمة أخرجت للناس؟

           إن مما يخفف من هذه الآلام التي تنتاب الأمة أنَّ هناك تكتلاً من أبناء الأمة المخلصين، قد شَمّروا عن سواعدهم، وهم ثابتون على الحق، يعملون لاستئناف الحياة الإسلامية بإعادة دولة الخـلافة الراشدة، يتطلعون إلى الدنيا مرة وإلى الآخرة مرات، يصلون ليلهم بنهارهم في سبيل الله، مستبشرين بنصره سبحانه وتحقيق وعده.

            إنه لحري بالأمة أن تحتضن أبناءها هؤلاء، بل وتعمل معهم وتحوطهم بعونها ونصرتها،وإننا نضرع إلى الله سبحانه أن يمدنا بمدد من عنده وعون من لدنه ليعود يوم عزنا الأول، ويزول يوم ذلنا الثاني، ويظلنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلم «ثم تعود خلافةً راشدةً» وليس ذلك على الله بعزيز .

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply