قبل أن نشتكي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

إن حجم القلق والاضطراب الذي يتعرض له كلا الأبوين عند وجود مشكلة لدى الابن أو الابنة يجعلنا لا نستطيع منع أنفسنا من التساؤل، ألم يكن من الممكن تجنب الوصول إلى هذه الدرجة من المشكلة؟!

ألم يكن باستطاعتنا بعون الله - تعالى -تلافي الوقوع في هذه المشكلة؟!

إن التربية بقدر ما يظن الناس أنها صعبة وشاقة بقدر ما هي يسيرة هينة إذا توفرت لها في الأبوين مطالب:

1. رغبة صادقة في صلاح الأبناء تثمر انشغالاً حقيقيًا بهم.

2. تحديد للهدف المراد تحقيقه في الأبناء.

3. علم بقواعد التربية الأساسية وأساليبها لتحقيق الوصول إلى الهدف المنشود.

4. وقت لتنفيذ كل ما سبق.

5. دعاء مستمر صادق للابن بالطبع وليس عليه.

وللتربية شقان رئيسان:

1. وقاية قبل الشكوى.

2. علاج بعد الشكوى.

ويرتبط كل واحد منهما بالآخر ارتباطًا وثيقًا ويعتمد عليه، فعلى قدر الجهد المبذول في شق الوقاية يقل الجهد المطلوب في شق العلاج، والعكس دقيق صحيح.

لذا كان لزامًا على الآباء والأمهات بذل الجهد الحقيقي الوافر في كيفية تحقيق الوقاية قبل التعرض للمشاكل، ولقد ذكرنا في مقالات أخرى كيف يستطيع الأبوان تحديد هل ابنهما في أزمة حقيقية طارئة أم في موقف عابر سيمر منه بحفظ الله وتثبيته له؟! وذكرنا أن المعيار في ذلك هو اطمئنان الأبوين أنهما قد ربيا أبناءهما على ثوابت وقواعد راسخة تجعل الأبناء يحسنون التصرف والاستشارة والتوجيه.

إذن لكي نحفظ أبناءنا من الأزمات والمشاكل، ولكي نجنب أنفسنا مرارة رؤية أبنائنا على أبواب انحراف ولا نملك لهم حراكًا، كان لا بد من العناية الشديدة بتحقيق أساليب الوقاية ومعرفتها وتنفيذها وبيان معوقاتها.

وتتلخص أساليب الوقاية من المشاكل أو الشكوى من جانب الأباء في هذه المرحلة في الآتي:

1. تحديد الهوية والانتماء بتحديد المرجعية والهدف.

2. الرفقة والصحبة الصالحة.

3. ضبط وتوجيه الشهوات [الفرج ـ البطن ـ الكلام...].

4. التوجيه لحسن شغل وقت الفراغ.

5. انضباط الآباء والأمهات بالشرع في التعامل مع الأبناء.

6. خصوصية النوع ومحاربة التشبه بالغير [النوع الآخر ـ القدوة السيئة].

وسنعرض لكل واحد من هذه الأساليب بإيجاز شديد على مدى هذا المقال والجزء الثاني منه:

أولاً: تحديد الهوية والانتماء بتحديد المرجعية الهدف:

[1] {صِبغَةَ اللَّهِ وَمَن أَحسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبغَةً وَنَحنُ لَهُ عَابِدُونَ}.

 أخبرني عن نفسك.. تفكيرك.. مشاعرك.. آرائك.. نظرتك لنفسك وللآخرين، هذه هي الإجابة الدقيقة عن السؤال: من أنت؟!

إنه لا بد من تحديد الهوية التي سنصوغ أبناءنا وفقها ونصبغهم بصبغتها فتحكم مشاعرهم وأفكارهم وآراءهم وتوجاتهم، ودرجة الإتقان في تحقيق هذا الأمر تكون بالثقة المتولدة لدى الشباب عند الإجابة على السؤال من أنت؟! فيجيب: أنا مسلم.

[2] {وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ}.

تحديد الانتماء ومقياس الموالاة والمعاداة والمحبة والبغض، ولتحديد كل من الهوية والانتماء لا بد من تحديد المرجعية والهدف.

[3] المرجعية:

في حجة الوداع يوم عرفة وقف النبي - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا، فاستفتح خطبته بسؤال: في أي بلد نحن؟! من المؤكد وضوح الإجابةº فهم في مكة في أرض عرفة، لكن العجيب كان في الإجابة التي رد بها الحاضرون من الصحابة رضوان الله عليهم، فقد قالوا: الله ورسوله أعلم!!

وينطق السؤال الثاني: في أي شهر نحن؟!

وهل يحج الناس إلا في شهر ذي الحجة من يوم أذن إبراهيم - عليه السلام - بالحج في الناس، وتتكرر الإجابة العجيبة: الله ورسوله أعلم. في أي يوم نحن؟! الله ورسوله أعلم.

قال: ألسنا في بلد الله الحرام مكة، ألسنا في شهر ذي الحجة، ألسنا في يوم عرفة، قالوا: بلى يا رسول الله قال:... \'.

الشاهد من الحديث عندما سئل الصحابة لِمَ لَم يجيبوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يعرفون الإجابة؟!

فكان الرد منهم: خفنا أن يغيره.

إن تحديد المرجعية في كل الأمور هي الصورة التي تجعل الشاب قبل إتيان الفعل أو الفكر أو القول يسأل: هل يحبه الله أم يبغضه؟! وكيف يجب مني أن أفعله أو أؤديه؟!

وهذا مما يرسخ قضية الهوية والانتماء، ليست الفكرة أن يعمل ابنك الصواب، لكن أن يعرف لمَ يفعله؟!

 

[4] الهدف:

وأعني به معرفة الابن للهدف من الحياة ووضوحه في ذهنه، وفهم رسالته: {وَمَا خَلَقتُ الجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعبُدُونِ} [الذاريات: 56].

فيعبده في نفسه، ويسعى في تعبيد الناس لله - تعالى -على قدر وسعه وطاقته، والعبادة هنا بمفهومها الواسع لا الضيق، فكل ما في الحياة عبادة إذا ابتُغي به وجه الله - تعالى -وكان وفق شرعه ورضاه.

 

ثانيًا: الرفقة والصحبة الصالحة:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \'مثل الجليس الصالح والجليس السوء، كمثل حامل المسك ونافخ الكير، فحامل المسك إما أن يحذيك [يضع الطيب على يدك]، وأما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحًا طيبة، ونافخ الكير إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحًا خبيثة\' [رواه البخاري].

 

أنت في الناس تقـاس بالذي اخترت خليلا

فاصحـب الأخيار تعلُ وتـنل ذكـرًا جميلا

صحـبة الخامل تكـسو مـن يواخيه خمولا

لا بد أن يتفهم الأبوان أن هناك مرحلة أساسية لا بد من أن يمر بها الشاب، يكون الدور الرئيس في التأثير في توجيهاته وأفكاره وتصوراته هو لأقرانه ممن هم في نفس سنه، وذلك لاتحاد الرغبات والمشاعر والتطلعات، وتنبه معي لهذا المثل القرآني اللطيف لإخوة يوسف - عليه السلام - مع أنهم قد اجتمعوا على التخلص من أخيهم حسدًا لمنزلته عند أبيه، إلا أن التأمل في درجات الكيد يؤكد لنا أن صلاحهم وتربية أبيهم قد أثمرت، فها هي رفقة صالحة أغواها الشيطان في معصية، لكن لصلاحها تجد التصعيد كما سماه المفسرون تصعيدًا نحو الخير لا الشر، أو بمعنى أدق إلى تقليل الشر {اقتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطرَحُوهُ أَرضاً... }، {قَالَ قَائِلٌ مِنهُم لا تَقتُلُوا يُوسُفَ وَأَلقُوهُ فِي غَيَابَتِ الجُبِّ يَلتَقِطهُ بَعضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُم فَاعِلِينَ}.

 

إنه القتل.. كلا هذا كثير، فالطرح أرضًا.. كلا أيضًا، فالإلقاء في الجب ليلتقطه بعض المارة فيظل على قيد الحياة، ثم محاولة لإلغاء الأمر كله بقوله: {إِن كُنتُم فَاعِلِينَ} هذا يسمى تصعيدًا نحو الخير، بعكس رفقة السوء تجدهم يتبارون في التصعيد نحو الشر ويتنافسون فيه، ويسهل جدًا تحقيق هذه الوسيلة من وسائل الوقاية بضبط الوسيلة الأولى وهي تحديد الهوية والانتماء بتحديد المرجعية والهدف.

 

ثالثاً: ضبط وتوجيه الشهوات:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \'من يضمن ليس ما بين لحييه وما بين رجليه أضمن له الجنة\'.

 

هناك ثلاث شهوات لا بد من الاستعداد لها بالوقاية.

1ـ شهوة الفرج.  2ـ شهوة الطعام.   3ـ شهوة الكلام

القاعدة: {وَأَمَّا مَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوَى فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأوَى} [النازعات: 40ـ41].

 

أـ خوف من مقام الله.

ب ـ نفس محكومة بالعقل المنضبط بالشرع.

 [1] شهوة الفرج:

لا بد من توضيح حدود العلاقة بالنوع الآخر، وبيان فضيلة العفة والحفظ والصون للنفس عن الحرام، وتعظيم نماذج المتعففين، والتوعية الكاملة الشرعية بمعاني البلوغ وسن التكليف الشرعي، وكذلك توضيح الممارسات الخطأ ومدى خطورتها نظرًا لما وصلته مجتمعاتنا من انفتاح وتعدد لصور الفساد، أو على الأقل فتح قناة اتصال قوية تكفي لكي يتحدث الشاب عما وصل سمعه وبصره من صور غير طبيعية ليمكن التوجيه من الأبوين فيها.

 

 [2] شهوة البطن:

قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \'ما ملأ آدمي وعاءً شرًا من بطنه، إنما يكفي ابن آدم لقيمات يقمن صلبه... \'.

الأكل وسيلة وليس غاية في حد ذاته، فلا يحرم التمتع بطيب الطعام لكن بغير إسراف ولا مباهاة، والاعتدال والاتزان في كل الأمور مطلوب.

 

 [3] شهوة الكلام:

وفيه يراعي أوجهًا:

أـ نوع الكلام: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \'ليس المؤمن بالطعان ولا اللعان ولا الفاحش البذيء... \'.

وقال - صلى الله عليه وسلم -: \'الكلمة الطيبة صدقة\'، وتنبه للألفاظ الدائرة في المحيط المعيشي للابن وأهمية تنقيتها أولاً بأول، والتنبه المبكر للأخلاق الكلامية من نوع الكذب والغش والنميمة والغيبة وغيرها، وبدء التعامل معها مبكرًا، أو وضع الأصول التي تقي من الإصابة بها واجتناب كل ما يدفع الأبناء إلى ارتكابها.

 

ب ـ كمية الكلام: ورد في الشرع ذم الثرثرة وبيان أن من كثر كلامه كثر خطؤه.

 

ج ـ تحديد وقت الكلام ووقت الصمت، وبيان ما يناسب كل موقف وتعليمه للأبناء.

ومثال ذلك موقف عمر بن الخطاب من ابنه عبد الله عندما عرف إجابة السؤال عن النخلة فلم يجب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply