يتضمن القرآن الكريم مجموعة من الوصايا الرائعة التي يوصي بها الآباء أبناءهم، تحمل في طياتها حكماً عظيمة وأساليب مؤثرة في تربية الأولاد تربية صحيحة متوازنة، ومن هذه الوصايا: وصايا لقمان الحكيم لابنه، ونحاول عرضها في هذه المقالة بصورة موجزة. يقول الله - تعالى -: «.. وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم.. ».
حكمة لقمان:
أولاً: أراد الله - تعالى -أن يبين أنه قد أعطى الحكمة للقمان، وخلد تلك الوصايا في القرآن الكريم. فالحكمة هي العقل والفطنة والعلم مع الإصابة في القول، كما عرفها بعض العلماء بقوله: هي وضع الشيء المناسب في المكان المناسب. ولا يختلف التفسيران، فالحكمة هي العلوم النافعة، والتجارب الناجحة التي ترتب عليها الخير الكثير للإنسانية، ولقمان بن يا عور، كان من سودان مصر من النوبة، وعاش حتى أدرك نبي الله داود فأخذ منه العلم وآتاه الله الحكمة، ولم يكن نبياً عند الجمهور، وقال ابن عمر - رضي الله عنهما -، سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول: «لم يكن لقمان نبياً، ولكن كان عبداً كثير التفكير وحسن اليقين، أحب الله فأحبه، فمن عليه بالحكمة... ».
والحكمة في أن الله - تعالى - قال قبل ذكر الوصايا: «ولقد آتينا لقمان الحكمة» هي بيان أن هذه الوصايا مزكاة زكاها الله - تعالى - وأنها ترجع إلى مشكاة نور الله - تعالى -. ويستفاد من هذه الآية من الجانب التربوي ما يأتي:
أ- ضرورة التعريف بالمربي قبل أن يبدأ بالتربية، وأن يكون مزكى حتى تكون التربية مؤثرة.
ب- ضرورة اختيار الشخص المزكى للتربية، وليس أي شخص، فالمهمة صعبة وخطيرة وكبيرة، وهنا تلقى مسؤولية عظيمة على الآباء وأولياء الأمور ولجان وزارات التربية في اختيار المربين والمعلمين.
ج- ضرورة تعظيم المربي في نفوس المتربين، والنظر إليه بتقدير واحترام من خلال تقديمه من قبل الوالد، أو ولي الأمر، أو مسؤولي وزارة التربية والتعليم.
وهذه النظرة من المتربي أو المتعلم إلى المربي لها دور كبير في قبول وصاياه وتقبل نصائحه، واحترام أقواله وآرائه، وهي تقتضي أن تعطي للمربين والمدرسين والمعلمين مكانة لائقة بهم أدبياً ومعنوياً ومادياً.
كثرة الوعظ:
ثانياً: قوله - تعالى -: \" وإذ قال لقمان لابنه وهو يعظه\" يدل على ضرورة أن يجلس الأب مع ابنه دائماً أو كثيراً للوعظ والتوجيه والتربية، والطريق إلى التربية والتوجيه والتقويم يمر عبر الوعظ ووسائل الترغيب، والحكمة، والثواب والعقاب.
يا بني
ثالثاً: على المربي أن يختار الألفاظ المحببة والمشوقة لدى المتربي، وأن يشعره بأنه يحبه، وأنه لا ينصحه إلا من باب حبه الكثير، وأنه إذا تشدد معه فهو كالطبيب المعالج الذي تقتضي مصلحة مريضه أن يقوم باللازم، وقد استعمل القرآن الكريم «يا بني» الذي يدل على نداء المحبة والإشفاق، ومن هنا فعلى المربين والمعلمين أن لا يستعملوا الألفاظ الجارحة، بل يتفننوا في استعمال الكلمات الجميلة الراقية التي تدل على الاحترام والمحبة والإشفاق.
لغة الوعظ:
رابعاً: استعمال الألفاظ الواضحة وأن يكون خطابهم باللغة التي يفهمونها هم لا بلغة الكبار، فاستعمل وسيلة التقبيح المفهومة لديهم وهي «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».
التعليل والبيان:
خامساً: عدم الاكتفاء بسرد الأشياء المجردة عن أدلتها فلم يكتف لقمان الحكيم بمجرد النهي، بل بين السبب فقال: «لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم» وقال: «واقصد في مشيك واغضض من صوتك» ثم علل ذلك بقوله: «إن أنكر الأصوات لصوت الحمير».
وهذا منهج تربوي رصين قوي يدل على أنه يعطي القيمة لعقول الأولاد والمتربين.
وسائل الإقناع:
سادساً: البحث الجاد عن وسائل الإقناع، واستعمال وسائل الإقناع ضروري للمربين والمعلمين، وهي ليست محصورة، بل متنوعة تشمل الوسائل العقلية، والعاطفية والمادية، وكل الوسائل المعاصرة ولكن مع مراعاة عقول هؤلاء المتربين.
سؤال وجواب:
سابعاً: التربية عن طريق السؤال والجواب، وانتهاز فرصة حاجة المتربي إلى ذلك، فقد ورد أن ابن لقمان سأل أباه حينما رأى البحر المتلاطم الأمواج فقال: يا أبتاه: لو وقعت حبة في هذا البحر أيعلمها الله تعالى؟ فأجاب لقمان بقوله: «... يأت بها الله» أي هو قادر على أن يأتي بما سألت عنه وبما هو أصغر منه.
ومن الطبيعي جداً أن أسئلة الأولاد كثيرة فلا ينبغي للمربي أن ينزعج منها بل يستفيد منها، ويبني عليها. ومن الجانب النفسي فإن الأطفال يملون من العرض والإلقاء فلابد إذاً من إيصال المعلومات عن طريق الأسئلة والأجوبة وغيرها من وسائل التشويق.
ثامناً: التربية عن طريق قاعدتي الثواب والعقاب، والترغيب والترهيب فقد تضمنت الوصايا الجزاء على تلك الأفعال، وما يترتب عليها من ثواب وعقاب وجنة ونار.
تاسعاً: ضرورة الإتيان بالبدائل عند النهي عن أي شيء، فبعدما نهى لقمان عن الخلق الذميم من التكبر ونحوه رسم له الخلق الكريم فقال: «واقصد في مشيك».
الشمول..
عاشراً: أن الوعظ الذي يقدمه الوالد، أو المربي ينبغي أن يكون شاملاً لجميع ما يحتاج إليه المتربي من خلال خطة زمنية ومن خلال فقه الأولويات، ولذلك شملت وصايا لقمان لابنه الجانب العقدي، والجانب الأخلاقي، والجانب العملي، كما أنها راعت فقه الأولويات فبدأ بالتركيز على العقيدة الصحيحة، ثم التركيز على أداء الصلاة وإقامتها، ثم التركيز على الجوانب الأخلاقية القولية والسلوكية.
العبادات والصبر والأخلاق..
حادي عشر: تعليم الأطفال والمتربين العبادات الأساسية والتشديد على أدائها، وخصوصاً إقامة الصلاة، لأن ذلك يجسد ربطهم بالله - تعالى -وحمايتهم من الانحراف.
ثاني عشر: تعويدهم في سن مبكرة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتبنى عليه عدة نتائج في غاية من الأهمية منها:
الانطلاق من التعلم إلى التعليم للآخرين.
القدرة على المواجهة فيدرب المتربي وهو صغير على أن لا يكون سلبياً بل يكون إيجابياً يجهر بدعوته ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.
بناء الشخصية القوية القادرة على البيان والإفصاح عما تريد، فمن الطبيعي أن يكون الشخص الذي يتصدى للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ذا قدرة أدبية، وفصاحة وبيان.
ثالث عشر: وصية لقمان لابنه «واصبر على ما أصابك» تدل على ضرورة تعويد الأولاد والمتربين على تحمل المشاق والمشاكل والمصائب والصبر على النوائب، وعلى كل ما يصيب الإنسان بسبب الالتزام بدينه وفي ذلك بناء للشخصية القوية الجلدة التي تستطيع أن تبني، وأن تتحمل النتائج، كما أن فيه دعوة لعدم تعويدهم على الترف والدلال الذي يقتل فيهم روح القوة والبناء «اخشوشنوا فإن الترف يزيل النعم» كما قال عمر - رضي الله عنه -
غرس القيم:
رابع عشر: العناية القصوى بغرس القيم والأخلاق وبالأخص قيم السلوك وفن التعامل مع الناس من التواضع وعدم التكبر، والتوسط في الأصوات والمشي، فقال «ولا تصعر خدك للناس... » الآية. وهي تتضمن عدة نصائح: «ولا تصعر خدك للناس» لا تمل خدك للناس كبراً عليهم وإعجاباً، واحتقاراً لهم. وفي كلمة «للناس» لفتة أخرى إلى استقباح الكبر وهي أنك أيضاً من الناس، فبأي وجه تتكبر على مَن أنت واحد منهم؟!
«ولا تمش في الأرض مرحاً» لا تتكبر من خلال مشيتك باختيال وإعجاب.
«واقصد في مشيك» أي فليكن مشيك في قصد وتوسط بين الإسراع الذي يذهب بهيبة الإنسان، والبطء الذي قد يدل على التبختر والكبرياء، وليكن مشيك أيضاً في تواضع، وانظر في مشيتك إلى موضع قدمك، ولا تنظر نظرات كثيرة يميناً وشمالاً، وهذا هو البديل الذي رسمه له لقمان بعد ما نهاه عن المشي مرحاً.
«واغضض من صوتك» أي اخفض من صوتك، وغض منه فإن غض الصوت أوفر للمتكلم وأبسط لنفس السامع وفهمه، أما الجهر بالصوت فهو يؤذي السمع ويقرع الأذن.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد