التربية بالترغيب عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم -


 

بسم الله الرحمن الرحيم

ذكرت في مقال سابق أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قد يكرر الجمل والمعاني تنفيراً وتخويفا، وأضيف اليوم أنه قد يفعل ذلك إعجابا بالشيء وترغيبا فيه وتفخيما لأمره، وحثا عليه، جاء في الصحيح أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه كان أكثر الأنصار مالا وكان له بستان فيه نخل وماء يقال له \"بريحاء\" فلما نزلت آية (لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون، وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم) قام أبو طلحة فقال يا رسول الله إن أحب أموالي إليّ \"بريحاء\"، وإنها صدقة لله - تعالى - فضعها حيث شئت، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: بخٍ, ذلك مال رابح، بخٍ, ذلك مال رابح، وقد سمعت ما قلت وأني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أبو طلحة في الأقربين.

 

والتكرير والإعادة ـ بعد ـ ضرب من ضروب التربية والتعليم ولهذا كان من هديه - صلى الله عليه وسلم - إعادة الحديث ثلاث مرات ليفهم عنه، إذ قدرة الناس علي الفهم تختلف، واستعدادهم للاستيعاب يتباين، ثم هو - صلى الله عليه وسلم - لم يكن يسرد الحديث سردا، وإنما كان يرتله ترتيلا، أخرج الشيخان عن عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: (كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحدث حديثا لو عده العاد لأحصاه) والغرض من هذه الطريقة التعليمية الممتازة تفهيم الناس، وهي غاية سعى لها الرسول - صلى الله عليه وسلم - سعياً حثيثا، وهذه الغاية هي التي دفعت الرسول - صلى الله عليه وسلم - دفعا لينأى عن اتباع الكلام بعضه بعضاً، وذلك لأنه كان يخشى أن تلتبس المعاني في أنظار الناس، وتختلط الأفكار في أذهان السامعين، ولم يدع الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسيلة شريفة لتبليغ دعوته إلا سلكها.

 

ومن الوسائل التي اتخذها الرسول - صلى الله عليه وسلم - حضاً للناس علي الإيمان، وفعل الخير، وتحريضا لهم علي الاستمساك بالحق والاعتصام بالله، لجوؤه - صلى الله عليه وسلم - إلى القصص الطيب الندي، واعتماده علي عنصر التشويق، واستثارة فضول الناس، وبعث حب الاستطلاع فيهم فلم يكن أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - جاسيا قاسيا غليظا، ولم يكن أسلوبه - صلى الله عليه وسلم - أسلوباً تقريريا جافيا جافا مجردا، وإنما كان أسلوبا مشرقا نديا، فيه من القصص ألوان، ومن الأمثال ضروب. وهذا هو الأسلوب الذي اتبعه منذ بداية دعوته الكريمة الخيرة. ذكر أصحاب السير وأصحاب السنن أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - صعد ربوة وجعل يصيح يا صباحاه وهي كلمة تقال للإخطار بخطر داهم، والإنذار بكارثة مباغته لأن من عادة العرب الإغارة في الصباح الباكر، وهكذا نجد الله - سبحانه - وتعالي يقسم بالمغيرات صبحا.. نادي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عشيرته الأقربين وقومه الأدنين، فجاءوا إليه يهرعون فقال قولته المشهورة: (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بظهر هذا الوادي تغير عليكم أكنتم مصدقي) قالوا: نعم، ما جربنا عليك كذبا، قال: (فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)، وهكذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسعى لتحريك العواطف، ويقصد إلى استجاشة الشعور، ويعمد إلى استنفار الحواس. فهو إن أراد أن يخبر الناس أن الله يفرح بإقلاع العبد عن الذنوب، ويسر بتوبته وإنابته، لم يكتف بإلقاء الخبر صلتا مجردا، وإنما يضعه في صورة قصصية جذابةº روى الشيخان البخاري ومسلم قالا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان علي راحلته بأرض فلاة مهلكة فانفلت منه، وعليها طعامه وشرابه، فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها، قد أيس من راحلته فبينا هو كذلك إذ هو بها قائمة فأخذ بخطامها، (والخطام: الزمام وزنا ومعنى)، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح. وما أظن أن أحدا من الناس مهما أوتي من قدرة علي التعبير في التصوير يستطيع أن يصور ويعبر عن شدة الفرح واستفزاز السرور بأبلغ و أروع من هذا التصوير والتعبير. فالعطاء بعد اليأس، والرحمة بعد القنوط من شأنهما أن يدخلا في القلب راحة لا تعدلها راحة، وفرحا لا يزنه فرح.

 

ومن هذا الباب قوله - صلى الله عليه وسلم -: (اشترى رجل من رجل عقاراً له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب فقال الذي اشتري العقار خذ ذهبك مني إنما اشتريت منك الأرض، ولن ابتع منك الذهب، فقال الذي شرى الأرض: إنما بعتك الأرض وما فيها، فتحاكما إلى رجل فقال الذي تحاكما إليه ألكما ولد قال أحدهما: لي غلام. وقال الأخر: لي جارية، قال: انكحوا الغلام الجارية، وأنفقوا علي أنفسهما منها وتصدقا)، والقصد إلى التربية والتقويم والتثقيف والإصلاح ظاهر بين في هذه القصة التي رواها الرسول المعلم صلوات الله وسلامه عليه، ففيها إشارة إلى أن هنالك قيما ومثلا ومعاني ارفع شأنا وأجل خطراً من التكالب والتناحر والتنازع علي الدنيا وهي ظل زائل، وعارية مسترجعة، وحطام هالك، مسحوق، وأن عظمت في أعين قوم لا يبصرون. وفي هذه القصة التي رواها الرسول المعلم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه صورة من صور الإيثار الرائع الأخاذ الذي ما فتئ الرسول - صلى الله عليه وسلم - يدعو الناس إليه ويعمل علي غرسه في نفوس أصحابه وأتباعه وأشياعه فكلا الرجلين يؤثر صاحبه بالأصفر الرنان الذي يتقاتل عليه بعضهم ويتنافسون، والرسول الكريم قد ينوِّه بأمثلة في الإيثار، وينبِّه علي مآثر لأصحابه ليقتدي بها آخرون منهم، من ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن الأشعريين إذا أرملوا (أي نفد زادهم) في الغزو أو قل طعام عيالهم بالمدينة جعلوا ما كان عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموه بينهم في إناء واحد بالسوية فهم مني وأنا منهم)، وقد أثمرت تربيته القويمة - صلى الله عليه وسلم - رجالاً يؤثرون علي القوم ولو كان بهم خصاصة. قالوا جاء مال من جهة من الجهات فقال الرسول - صلى الله عليه وسلم - للأنصار: (إن إخوانكم من المهاجرين لا أموال لهم، فأن شئتم جمعت هذا المال إلى أموالكم وقسمته بينكم وبينهم وأن شئتم أمسكتم أموالكم وقسمته في المهاجرين خاصة قال الأنصار بل اقسمه في إخواننا المهاجرين خاصة واقسم لهم من أموالنا ما شئت ولقد هزت هذه الأريحية الفضفاضة أبا بكر الصديق فقال جزاكم الله عنا معشر الأنصار خيرا فوالله ما مثلنا ومثلكم إلا كمثل طفيل الغنوي إذ يقول في بني جعفر:

 

جزى الله عنا جعفراً حين أشرفت *** بنا رحلنا في الواطئين فزلتِ

أبوا أن يملونا ولو أن أمنا *** تلاقي الذي يلقون منا لملتِ

فذو المال موفور وكَلٌّ معصبٌ *** إلى حُجُرات أدفأت وأظلتِ

 

وهكذا تكون التربية، وهكذا يكون الإيثار وهكذا تكون المكارم، والموفق من وفقه الله - تعالى - للاقتداء بنبيه والأخذ بسنته والعمل بدينه.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply