قال الله - جل وعلا -: {... ولكنّ الله حبّب إليكم الإيمان وزيّنه في قلوبكم وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان، أولئك هم الراشدون}. لهذه الآية كان من هدي النبوّة المحمدي: \"اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين\".
وهذا الإيمان الذي ذكره الله في كتابه الكريم وحثنا الرسول على الدعاء بأن يحبِّبَه الله إلينا ويزيِّنَه في قلوبنا ليس في الإسلام قولاً يُقال، ولا دعوى تُدّعى، إنما هو حقيقة يمتد شعاعها إلى العقل فيقتنع، وإلى العاطفة فتجيش، وإلى الإرادة فتتحرك وتُحرّك، هو ـ كما جاء في الأثر ـ ما وقر في القلب وصدقه العمل. وليس الإيمان في الإسلام مجرد معرفة ذهنية محضة كمعرفة المتكلمين والفلاسفة، ولا مجرد تذوّق روحي مجنِّح كتذوّق فلاسفة المتصوفة، ولا مجرد سلوك تعبّدي كسلوك النٌّسّاك والمتزهِّدين. إنه مجموع هذا كله سالماً من الشطط والإفراط والتفريط، مضافاً إليه إيجابية تعمر الأرض بالحق، وتملأ الحياة بالخير وتقود الإنسان إلى الرشد.
وعماد التربية الإيمانية هو تلك اللطيفة الربانية التي تسكن الجسد وتحركه، وتأمره وتنهاه، هو المُضغة التي إذا صَلَحت صَلَح الجسد كلٌّه وإذا فسدت فسد الجسد كله، إنه القلب. فالقلب هو الذي يصل الإنسانَ بأعماق الحياة وأسرار الوجود، وينتقل به من الأرض إلى السماء، ومن الكون إلى المكوِّن، ومن عالم الفناء إلى عالم الخلود. والقلب الحيّ هو موضع نظر الله - تعالى - ومهبط تجلياته وأنواره \"إنّ الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم ولكن ينظر إلى قلوبكم\"، وهو المستنَد الوحيد الذي يقدمه العبد لربه يوم القيامة وسيلةً للنجاة {يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ, سليم}. وبدون هذا القلب العامر بالإيمان، المشرق باليقين، يكون الإنسان ميتاً وإن عدّة الإحصاء من الأحياء {أو مَن كان ميتاً فأحيناه وجعلنا له نوراً يمشي به في الناس كمن مَثَلُه في الظلمات ليس بخارج منها}. من أجل هذا يجب أن نعمد إلى إحياء القلوب حتى لا تموت، وعمارتها حتى لا تخرب، وترقيقها حتى لا تقسو، فإن قسوة القلب وجمود العين عقوبة يُستعاذ بالله من شرها، ولهذا ذمّ الله بني إسرائيل فقال: {فبما نقضهم ميثاقَهم لعنّاهم وجعلنا قلوبهم قاسية} وفي موضع آخر خاطبهم فقال: {ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة أو أشدٌّ قسوة} وعاتب الله أهل الإيمان فقال: {ألم يأنِ للذين آمنوا أن تخشعَ قلوبُهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم}. وعليه، فإن الداعية يجب أن يكون دائم الطرق لأبواب القلب حتى يتفتَّح على معرفة الله ويرجوه ويخشاه، وينيب إليه ويتوكل عليه، ويوقن بما عنده، ويأنَس بحبه والرضا عنه، ويسكن إلى قربه ويطمئن لحبِّه {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}. وبهذا يستسهل القلب المؤمن الصعب، ويستمرئ المر، ويستعذب العذاب، ويستهين بالمتاعب والمشاقّ، بل يستلذّها ما دامت لله وفي سبيل الله. وقلب الإنسان كجسمه، يحتاج إلى غذاء ليحيا، وغذاء القلوب عبادة الله - تعالى -.
فالقلب لا يصح ولا يفلح، ولا يَنعَم ولا يُسَرّ، ولا يلتذ ولا يطيب، ولا يسكن ولا يطمئن، إلا بعبادة ربه وحده وحبه والإنابة إليه. ولو حصّل كل ما يلتذّ به من المخلوقات لم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقر ذاتيّ (بالفطرة) إلى ربه من حيث هو معبوده ومحبوبه ومطلوبه. وبذلك يحصل له الفرح والسرور، واللذة والنعمة، والسكون والطمأنينة. وكلما أخلص المرء العبودية لله وجد سعادةً روحيّة لا تدانيها سعادة تتمثّل فيما سماه الرسول \"حلاوة الإيمان\". وإن المؤمن ليجد في عبادة ربه ساعة الشدة سكينة لنفسه، وأُنساً لوحشته، وانشراحاً لصدره، وتخفيفاً عن كاهله، كما قال الله - تعالى - لرسوله: {ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون، فسبح بحمد ربك وكن من الساجدين واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} فدلّه على العبادة إذا ضاق صدره بأقاويل المتقولين وأكاذيب المفترين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد