أقسم الله - عز وجل - بالنفس اللوامة، فقال: \"وَلاَ أُقسِمُ بِالنَّفسِ اللَّوَّامَةِ\"(القيامة: 2)، وهو تعبير عن حركة نفس تخطئ فتلوم نفسها على خطئها.
وهذه الآية فيها معنيان: الأول عملية مراجعة ومحاسبة ولوم النفس لما حدث، ويقسم الله فيها لأنها مستوى عظيم في وصول النفس الإنسانية إليه، والثاني: لفظة التشديد \"لوّامة\" أي أن هذه النفس أصبح لها هذا الأمر خلقا وعادة وطبعا تطبعت عليهº بمعنى أن ممارسة النشاط أصبح مرتبطا بشكل عضوي بهذه العملية.
وعندما مدح الله نبيه أيوب قال عنه \"نِعمَ العَبدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ\" أي كثير الرجوع إلى الله، وكثيراً ما يحدثنا القرآن عن النفس الرجّاعة إلى الله في دعوته الناس للتوبة.
انظر كيف تكلم الله عن غزوة أحد بما يجلي الخطأ، ويكشف موطن الخلل؟ وكيف قال عن الصحابة:\"مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدٌّنيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآَخِرَةَ\" (آل عمرن: 152)، فقال ابن مسعود: ما كنت أظن أن أحداً من أصحاب محمد يريد الدنيا حتى نزلت هذه الآية.
لقد كان كثير من العاملين للإسلام يظنون أنهم لا يوجد فيهم من يريد الدنيا، وإذا كان مجتمع الصحابة وهو أنقى وأطهر مجتمع شهدته البشرية أو \"النموذج القرآني الفريد\" كان فيه من يريد الدنيا.. فما بالنا بغيرهم؟
إن النقد يبلور معرفتنا بذواتنا.. وإن كثيرًا من الأفكار تظل غائمة ما لم تتعرض للنقد والحوار، ثم إن النقد يوفر لنا بيانات كثيرة، نحن في أمسّ الحاجة إليهاº إذ إن الإنسان يحب الوضوح، ويحب العمل في أجوائه والنقد من المصادر المهمة، كما إن النقد يؤسس نوعا من السلطة الأدبية التي يحتاج الإنسان إلى من يمارسها عليه ليعوض بذلك ما لديه من ضعف في الحوافز على العمل، أو ليحجزه عن الكسل وسوء استغلال الوظيفة.
وفي ممارسة عملية النقد الذاتي إثراء للنقاش، وتمحيص للأفكار، وتبيان لإيجابيات وسلبيات كل رأي، كما أنها تساعد في عدم الانسياق العاطفي وراء رأي واحد.
إن النقد ملكة راقية جداً، والتقليد ملكة شائعة جداًº ولذلك نرى جمهور الناس يقبلون المبادئ كما تأتيهم على علاتها بمحض شيوعها أو عن طريق التربيةº ومن هنا اشتراك السواد الأعظم من كل أمة وفي كل زمن في حد وسط من التصورات والمعقولاتº فأشبه بعضهم بعضا شبها قويا كشبه الماء بالماء، انظر إلى قول مالك بن نبي عندما يقول: إذا تصورنا فردين مختلفين في الوظيفة وفي الظروف الاجتماعية، ولكنهما ينتميان لمجتمع واحد كطبيب إنجليزي وراعٍ, إنجليزي.. نجد أنهما يتميز سلوكهما إزاء مشكلات الحياة بتماثل معين في الرأي، يتجلى فيما يسمى بـ\"الثقافة الإنجليزية\".
ونقد الآخرين أسهل من نقد النفسº لأن الإنسان حين ينقد نفسه يقوم بدور الحجر والنحات في آن واحد –كما يقول عبد الكريم بكار- ولقلة ممارسة النقد والمراجعة لديناº فإن قليلا من الأفكار لدينا يصمد إذا تناوله أي نقد سطحي.
ويقول بكار أيضاً: إن نقد الذات يمثل إحدى قمم الموضوعيةº فهو إقرار ببشرية بني آدم التي لا تستطيع أن تخرج من دوائر الجهل والقصور والخطأ، إلا من عصم الله.
وفي هذا السياق يحدثنا الله - تعالى - عن أبينا آدم وأمنا حواء، حين أكلا من الشجرة، وبدت لهما سوءاتهما، وعرفا الوقوع في المخالفةº فإنهما أسرعا إلى الإنابة قائلين: \"رَبَّنَا ظَلَمنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّم تَغفِر لَنَا وَتَرحَمنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخَاسِرِينَ\" (الأعراف: 23).
والتوبة لا تكون إلا بعد اكتشاف خطأ، واكتشاف الخطأ لا يكون إلا بعد صحوة عقل أو صحوة ضمير، وكل منهما أمارة النضج والرقي، وهذه السنة التي سنّها أبونا آدم لنا ستظل خميرة يستنبت فيها الصالحون من أبنائه صنوفا من الأوبات والمراجعات.
وهذا موسى - عليه السلام - يعترف بخطئه حين قتل القبطي نصرة للإسرائيلي، ويقول:\"رَبِّ إِنِّي ظَلَمتُ نَفسِي فَاغفِر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ\"(القصص: 16) وهذا يونس يعلن بكلمات ملؤها الضراعة والثناء على الله - سبحانه وتعالى -: \"وَذَا النٌّونِ إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقدِرَ عَلَيهِ فَنَادَى فِي الظٌّلُمَاتِ أَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ\" (الأنبياء: 78).
وأخيراً.. إن قضية النقد الذاتي من القضايا الخطيرة والحساسةº فوجودها ضروري للبقاء ضمن المسار الصحيح، ولرفع وتيرة العمل كلما أصابنا الكلل والملل، ولمحاصرة الأخطاء التي تحدث أثناء التطبيق أو حتى أخطاء الفكرة ذاتها. وسيظل نقد الذات مقياسا دقيقا للوعي بالذات وللوعي بالماضي والحاضر والأمة (أو العمل الإصلاحي)، والذي يُحرَم منه يُحرَم من خير كثير.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد