رغم ما تتسم به الاستراتيجية الأمريكية من أنها استراتيجية كونية، لا تقتصر على قارة أو إقليم أو منطقةº بل تشمل العالم قاطبة، أرضاً وبحراً وجواًº إلا أن هناك بعض المناطق تشكل لها مجالا حيويا أكثر من غيرها لما تتميز به من موقع استراتيجي أو ثروات حالية أو محتملة ولعل هذا ما يجعل منطقة غرب أفريقيا تحتل موقعا متميزا في الاستراتيجية الأمريكية إذ يمتد هذا الإقليم جغرافياً من موريتانيا غرباً وحتى النيجر شرقاً، ومن موريتانيا شمالاً وحتى ليبيريا جنوباً، ومن ليبيريا غرباً حتى نيجيرياº أما دوله فهي: مالي، نيجيريا، غانا، النيجر، بوركينافاسو، ساحل العاج، موريتانيا، غينيا، غامبيا، بنين، توغو، ليبيريا، سيراليون، السنغال.
والقاريء المتمعن في وثيقة الأمن القومي الأمريكي التي صدرت في 20 سبتمبر 2002 أو تلك التي صدرت في 16 مارس عام 2006 يهاله ما أصبحت تحتله أفريقيا بصفة عامة وتلك المنطقة بصفة خاصة من اهتمام، وبالجملة فقد تم نقل الاهتمام بأفريقيا إلى مواقع متقدمة في الاستراتيجية الأمريكية حيث تنص الوثيقة الأخيرة على أن "تكتسب أفريقيا أهمية جغرافية إستراتيجية متزايدة وتشكل أولوية في جدول أعمال الإدارة الأمريكية"
ويظل القاسم المشترك في الوثيقتين أنهما تضعان خريطة العالم وتعيد ترتيب أوضاعه دولا وشعوبا وثقافات بما يتوافق مع المصلحة الأمريكية البحتة ولعل هذا هو المعيار الوحيد في ضبط الأشياء
لذا قال بوش في خطاب تدشينه لوثيقة 2006 - ونفس الكلام قد سبق إعلانه في وثيقة 2002-: "إننا نسعى إلى تشكيل العالم، وليس مجرد أن يشكلنا هو، وأن نؤثر في الأحداث من أجل الأفضل، بدلا من أن نكون تحت رحمتها".
لقد برزت منطقة غرب أفريقيا ضمن السياق العام للأهداف الكونية لاستراتيجية المحافظين الجدد واليمين الديني الأصولي المتطرف في شقيه الأمريكي والصهيوني ومراكز القوى التي تشكل عصب المركب الصناعي/ العسكري الممسك بزمام صناعات النفط والسلاح والإعلام والرأسمال.
حيث نجد أن كلا الوثيقتين قد خاطبت الحاجة الملحة لأمن الولايات المتحدة وشراهتها للنفط- تلك الدولة التي تستهلك ربع بترول العالم- وجاءت القارة الأفريقية ضمن هذه الرؤية التي كونتها الولايات المتحدة في العالم الذي أصبح بموجب هذه الاستراتيجيات ساحة مفتوحة تحقق فيها مصالحهاº وكما ذكر الرئيس بوش الابن أن: "حدود الولايات المتحدة الأمريكية هي حدود نهاية مصالحها" ولأن مصالحها كونية ينبغي أن تكون كذلك حدودها
أولا: النفط الأفريقي مصلحة استراتيجية أمريكية
الفكرة المحورية في الاهتمام الاستراتيجي الأمريكي بمنطقة غرب أفريقيا تتلخص في النفط أولا حيث تحاول الولايات المتحدة تقليل حدة اعتمادها على نفط الشرق الأوسط خاصة من منطقة الخليج من جهة وزيادة الضغط على الدول المصدرة للنفط لزيادة إنتاجها وصولاً إلى خفض الأسعار وإيجاد حالة من الانقسام بين الدول المنتجة من جهة ثانية، ومن ثم تتجه الولايات المتحدة إلى الاستثمار في بترول غرب إفريقيا ولاسيما "تشاد نجيريا الكاميرون" حيث أصبح النفط الإفريقي مصلحة إستراتيجية قومية لأمريكا.
ولا تفهم كثير من تحركات الولايات المتحدة في دارفور وخططها الخاصة بهذا الإقليم إلا في ضوء الاستراتيجية الأمريكية التي تأسست على فصل الإقليم عن السودان وتأسيس كيان مستقل مع العمل على بناء أنبوب لنقل بترول الإقليم بعد استخراجه وربطه بالأنبوب التشادي الذي موله البنك الدولي بأكثر من ثلاثة مليارات من الدولارات وذلك لنقل خام دارفور وتشاد إلى ميناء دوالا في الكاميرون على المحيط الأطلسي.
وفي هذا الإطار سلطت الخطة القومية للطاقة التي أعدها فريق عمل نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني الضوء على غرب أفريقيا باعتبارها المصدر الأسرع تطوراً للنفط والغاز للسوق الأمريكي، ومن أجل تأمين مصادر أكثر أمناً للنفط طرقت إدارة الرئيس بوش أبواب أكثر الأنظمة استبداداً وقمعاً في غرب أفريقيا وبنت معها تحالفات.
ولقد تزايد الاهتمام بالنفط الأفريقي بعد استمرار الحرب في أفغانستان والعراق- وتدهور الأوضاع في هاتين الدولتين التي كانت الدوافع وراء احتلالهما بترولية بحتة- وتبلور مواقف معادية لولايات المتحدة في فنزويلا وحالة عدم الاستقرار السياسي الذي تعانيها بعض الدول الشرق أوسطية المصدرة للنفط.
وإذا كانت دول غرب أفريقيا تقوم حالياً بتغطية 15بالمائة من واردات الولايات المتحدة من النفط الخام فإن صناع النفط في أمريكا حينما يضعون أعينهم على نفط غرب القارة السمراء فإن مجلس المعلومات القومي يتوقع أن ترتفع هذه النسبة إلى 25بالمائة بحلول عام 2015م.
ويتوقع الخبراء أنّه وبحلول عام2020 فإن الولايات المتّحدة يمكن أن تحصد ربع نفطها من هذه المنطقة مقابل 30 بالمائة من واردات أمريكا النفطية التي تجيء من كندا والمكسيك، و26 بالمائة تجيء من الخليج العربي، ويقول الخبراء بأن مجال النفط في غرب أفريقيا يوفر العديد من الفرص الجاذبة منها توفر الاحتياطات النفطية وبكميات كبيرة كما أن نوعية النفط عالية وخطوط الشحن إلى الولايات المتحدة أقصر عموماً من أي مناطق إنتاج أخرى للنفط، ومن ثم تعمل الولايات المتحدة على استشراف منابع نفطية جديدة تغذي الشرايين الأمريكية وهنا تمثل غرب أفريقيا مجالاً رئيسياً لأهداف سياسة بوش من ناحية النفط من حيث أنها تعتبر منفذاً جديداً تأمل واشنطن في أن يكون مخرجها من القبضة العربية التي تسيطر على أسعار النفط العالمية وتتحكم فيها إلى حد بعيد.
وتتعدد أسباب الاهتمام الأمريكي بالنفط في غربي أفريقيا وإن كانت أهمها:
أولاً: وضع اليد الأمريكية على مخزونات غرب أفريقيا من النفط، ومما أغرى الولايات المتحدة زيادة الكميات المكتشفة في هذه المنطقة ذلك أن سبعة من أصل ثمانية مليارات برميل نفط اكتشفت عام 2001 في العالم تقع في غرب أفريقيا، وتم اكتشافها بواسطة التنقيب في أعماق البحار، الأمر الذي دفع شركات نفطية أمريكية عملاقة، مثل 'اكسون موبيل' و'شيفرون'، لإقامة فروعاً ضخمة لها خلال السنوات الأخيرة في خليج غينيا الاستراتيجي، كما أن إنتاج النفط الأفريقي زاد خلال السنوات العشر الأخيرة بنسبة 36 % مقابل 16 % لباقي القارات.
ثانياً: الحصول على النفط بأسعار مخفضة وذلك لأن النفط الأفريقي يتمتع بميزات متعددة بالنسبة للولايات المتحدة منها قرب المسافة بين مناطق النفط في خليج غينيا الاستوائية ومصافي البترول على الساحل الشرقي للولايات المتحدة، مما يوفر نفقات شحن ووقت أقل من نفقات شحن النفط من الشرق الأوسط، وبحر قزوين وروسيا وغيرها من مناطق الإنتاج في العالم، كما أن طرق الشحن البحرية أكثر أماناً من طرق الشحن الأخرى، وفضلا عن ذلك، فان استيراد النفط من غرب أفريقيا يجنب واشنطن مخاطر الاعتماد على النقل عبر قناة السويس والخليج العربي والبحر الأحمر، وهي ممرات مائية تقع في بؤرة صراعات محتدمة، إضافة إلى أنها محاطة بكتل بشرية لديها مشاعر عدائية تجاه الولايات المتحدة.
ثالثاً: تنويع مصادر الولايات المتحدة من النفط، ففي الوقت الحالي تأتي الكميات المستوردة من أربع مصادر رئيسة هي كندا في المرتبة الأولى، والثانية المملكة العربية السعودية بواقع 1. 8 مليون برميل يومياً، والثالثة المكسيك، والربعة فنزويلا، حيث تستورد الولايات المتحدة ثلثا إنتاجها من هذه الدول الأربع وحدها، وتستورد الولايات المتحدة من مجمل القارة الأفريقية نحو 15 في المائة من استهلاكها
رابعاً: إحكام سيطرة الولايات المتحدة على مخزونات النفط العالمية إلى جانب سيطرتها العسكرية وهو ما يسهل تحكمها في الاقتصاد العالمي واقتصاديات الدول المنافسة بشكل أكبر
خامسا: محاصرة النفوذ الأوروبي خاصة الفرنسي في غرب القارة السمراء حيث إن النفط الأفريقي يشكل محور الخطة الأمريكية للسيطرة ومنافسة النفوذ السياسي والاقتصادي الأوروبي في القارة من خلال زيادة الصادرات والاستثمارات الموجهة إليها، فالسيطرة الأمريكية على نفط أفريقيا، تفتح أسواقا جديدة للمنتجات الأمريكية في دول القارة السمراء، خاصة وأن كثيرا من تقارير وزارة التجارة الأمريكية، كشفت عن أن نصيب الولايات المتحدة من السوق الأفريقية لا يزيد عن 7. 6 % مقارنة بـ 30 % لدول الاتحاد الأوروبي
سادسا: بٌعد الدول الأفريقية عن نفوذ منظمة الاوبك، والتي تبذل واشنطن جهودا حثيثة لتقويض نفوذها، كان أخرها الضغط على نيجيريا للانسحاب من المنظمة، وهي الخطوة التي اتخذتها الجابون دون ضغوط في عام 1995
سابعا: يلفت المحللون إلى سبب أخر، إذ أن نسبة الكبريت المنخفضة، والتي يتميز بها النفط الأفريقي، تقلل من تكلفة عملية التكرير، كما أن وجود معظمه في البحر، يقلل من احتمالات حدوث احتكاكات ما بين شركات النفط والسكان المحليين، ويوفر بيئة أكثر أمنا لعمليات التنقيب والشحن، وتبعدها عن أي اضطرابات على البر.
ثامنا: كما أن السيطرة على النفط الأفريقي، تتيح للولايات المتحدة فرض نفوذها على منطقة جديدة من مناطق الطاقة في العالم، وهو أمر متحقق بالفعل بالنسبة لنفط الخليج، ولحد ما بالنسبة لعمليات التنقيب في بحر قزوين، وهذه السيطرة تعد جزءا من السياسة القومية للطاقة التي وضعتها إدارة الرئيس جورج بوش، والتي تعتبر "أمن الطاقة مكون أساسي للأمن القومي وشرط مُسبق لضمان النمو الاقتصادي المستديم".
تاسعا: على العكس من سيطرة الدول العربية والإسلامية على منظمة الأوبك، فان دول غرب أفريقيا، تتميز بتنافرها العرقي والثقافي، وهو الأمر الذي يعوق تبنيها مستقبلا لسياسة نفطية موحدة تجاه واشنطن، كما أن ذلك يضمن عدم تحول أي نزاع أو اضطرابات محلية إلى الصبغة الإقليمية أو الأيدلوجية، كما هو الحال بالنسبة للقضية الفلسطينية في الشرق الأوسط والخليج.
عاشرا: الرغبة في تحجيم الدور الصيني المتنامي في القارة ذلك الدور الذي شكل إحدى زوايا الرؤية الأمريكية حيال استراتيجيتها هناك، ففي السادس من شهر ديسمبر 2005 أصدر مجلس العلاقات الخارجية تقريرًا حذر فيه الولايات المتحدة من مواجهة منافسة ضارية من الصين على إمدادات النفط من إفريقيا، داعيًا واشنطن إلى 'انتهاج أسلوب استراتيجي تجاه القارة باستثمار المزيد من الموارد هناك'
وقال المجلس: إن الأهمية الإستراتيجية لإفريقيا تتزايد خاصة بسبب إمدادات الطاقة وأنه يتعين على الولايات المتحدة تجاوز أسلوب التعامل مع القارة من منظور إنساني واعتبارها شريكًا.
ثانيا: دعوى محاربة الإرهاب في الاستراتيجية الأمريكية
تمثل دعوى محاربة الإرهاب أحد وسائل أو أدوات السياسة الخارجية الأمريكية في تحقيق مصالحها الاستراتيجية حيث العالم ساحة مفتوحة أمام المخططين والاستراتيجيين لفرض الأجندة الأمريكية
ولعل هذا ما كانت تقصده الإدارة الأمريكية بمبادرة الساحل الإفريقي الكبير هذا إلى جانب المبادرة الخاصة في غرب إفريقيا "الاستثمار النفط الأمريكي في خليج غينيا ومبادرة الجنوب الإفريقي لمحاربة الإرهاب
لقد غدت دعوى محاربة الإرهاب وسيلة ناجعة لخداع الشعب الأمريكي بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، لتتدخل الولايات المتحدة الأمريكية في جميع أنحاء العالم بما فيها أوروبا لخدمة إستراتجيتها الحقيقية التي لا علاقة لها بمحاربة الإرهاب.
وكما يشير تقرير لجنة الأزمات الدولية الصادر في 2005 تحت عنوان: الإرهاب الإسلامي في الساحل، حقيقة أم وهم: إن المنطقة الشاسعة المحاذية للصحراء والتي تشمل مالي والنيجر وتشاد وموريتانيا، لا تشكل مرتعاً للنشاط الإرهابي غير أن التصور الخاطيء والتعامل الخاطئ يؤدي لنتائج غير مرجوة في حين أن التعامل المتأني والمتوازن والجدي مع هذه الدول الأربع من شانه أن يبقي المنطقة في أمان. فالسياسة المجدية لمحاربة الإرهاب هناك تقتضي التعامل مع هذا التهديد بأفق واسع، من خلال المساعدات التنموية أكثر من المساعدات العسكرية.
ويضيف التقرير: إن القول بتعاظم النشاط الإسلامي في المنطقة "بما في ذلك النشاط العنفي" هو قول ليس دقيقاً تماماً، فالمسلمون في غرب أفريقيا كما هو الحال في مناطق أخرى يعبرون عن معارضه متزايدة للسياسة الغربية ولاسيما الأمريكية في الشرق الأوسط، وبنفس الوقت هناك تزايد في الاستقطاب الأصولي، ومع ذلك يجب الحذر من المبالغة في تقدير أهمية هذه الأمور، فللإسلام "الأصولي" حضور هنا في الساحل منذ ما يزيد على 60 عاماً، بدون أن يرتبط بالعنف المعادي للغرب.
رغم ذلك فما زال هاجس تنظيم القاعدة يشغل البال المخططين الاستراتيجيين الأمريكيين، ورغم كل المحاولات التي قامت بها الولايات المتحدة وغيرها من الدول التي انتظمت في إطار الحرب الأمريكية على الإرهاب منذ تفجيرات سبتمبر عام 2001 لا زالت الولايات المتحدة تنفخ في دعوى محاربة الإرهاب، ومن هنا كانت الأهمية التي أولتها الولايات المتحدة لإفريقيا عامة وغربها على وجه الخصوص من أن يشكل فيها تنظيم القاعدة محاولات لضرب المصالح الأمريكية.
وفي هذا الإطار يمكن فهم المناورات الأمريكية الأطلسية المشتركة مع قوات بعض بلدان غرب أفريقيا في يونيو 2005 للتدريب على مكافحة "جماعات إرهابية" ومحاولات إيجاد جيش مشترك لمواجهة تحديات ما يسمى بالإرهاب بل يمكن فهم كذلك سياسات تحزيم المنطقة بسلسلة من القواعد العسكرية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد