بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خالق كل شيء، ورازق كل حي، أحاط بكل شيء علماً، وكل شيء عنده بأجل مسمى، أحمده - سبحانه - وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره وهو بكل لسان محمود، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له وهو الإله المعبود. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله، صاحب المقام المحمود، والحوض المورود، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الركع السجود، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى اليوم الموعود، وسلم تسليماً كثيراً.
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله فأتقوه حق التقوى وراقبوه في السر والعلن، ثم أما بعد:
يقول الله- تبارك وتعالى -: ((إِنَّا عَرَضنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً لّيُعَذّبَ اللَّهُ المُنَـافِقِينَ وَالمُنَـافِقَـاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَـاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَـاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً)) الأحزاب: 72، 73.
إن السماوات والأرض والجبال - التي اختارها القرآن ليحدث عنها - هذه الخلائق الضخمة الهائلة، التي يعيش الإنسان فيها أو حيالها فيبدو شيئا صغيرا ضئيلا. هذه الخلائق تعرف بارئها بلا محاولة، وتهتدي إليه بخلقتها وتكوينها ونظامها ; وتطيع الخالق طاعة مباشرة بلا تدبر ولا واسطة. وتجري وفق إرادته - جل وعلا - دائبة لا تني ولا تتخلف دورتها جزءا من ثانية ; وتؤدي وظيفتها بحكم خلقتها وطبيعتها غير شاعرة ولا مختارة.
هذه الشمس تدور في فلكها دورتها المنتظمة التي لا تختل أبدا. وترسل بأشعتها فتؤدي وظيفتها التي قدرها الله لها ; وتجذب توابعها بلا إرادة منها ; فتؤدي دورها الكوني أداء كاملا..
وهذه الأرض تدور دورتها، وتخرج زرعها، وتقوت أبناءها، وتواري موتاها، وتتفجر ينابيعها.وفق سنة الله بلا إرادة منها.
وهذا القمر. وهذه النجوم والكواكب، وهذه الرياح والسحب. وهذا الهواء وهذا الماء.. وهذه الجبال. وهذه الوهاد.. كلها.. كلها.. تمضي لشأنها، بإذن ربها، وتعرف بارئها، وتخضع لمشيئته بلا جهد منها ولا كد ولا محاولة.. لقد أشفقت من أمانة التبعة. أمانة الإرادة. أمانة المعرفة الذاتية. أمانة المحاولة الخاصة.
وحملها من أنه الإنسان.....
الإنسان الذي يعرف الله بإدراكه وشعوره. ويهتدي إلى ناموسه بتدبره وبصره. ويعمل وفق هذا النظام بمحاولته وجهده. ويطيع الله بإرادته وحمله لنفسه، ومقاومة انحرافاته ونزغاته، ومجاهدة ميوله وشهواته.. وهو في كل خطوة من هذه الخطوات مريد. مدرك. يختار طريقه وهو عارف إلى أين يؤدي به هذا الطريق! في ضلال القران
نعم عباد الله:
إن حِملاً ثقيلاً وواجبًا كبيراً وأمراً خطيراً عُرض على الكون سمائه وأرضه وجباله، فوجلت من حمله، وأبت من القيام به، خوفاً من عذاب الله - تعالى -، وعُرضت هذه الأمانة على آدم - عليه السلام -، فحملها واستقلّ بها، ((إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً)) أي: الإنسان المفرّط المضيّع للأمانة هو الظلوم الجهول،، قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: (الأمانة الفرائض، عرضها الله على السموات والأرض والجبال، إن أدَّوها أثابهم، وإن ضيّعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا منه من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله تعالى) تفسير القرطبي (14/255)،، وقال الحسن البصري - رحمه الله -: \"عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زُينت بالنجوم وحملةِ العرش العظيم، فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عُوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شُدّت بالأوتاد وذُلِّلت بالمهاد، قال: فقيل لها: هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت: وما فيها؟ قال: قيل لها: إن أحسنتِ جُزيتِ، وإن أسأتِ عوقبتِ، قالت: لا، ثم عرضها على الجبال فأبت\" أخرجه ابن أبي حاتم كما في تفسير ابن كثير (3/523).
إنها أمانة ضخمة حملها هذا المخلوق الصغير الحجم، القليل القوة، الضعيف الحول، المحدود العمر ; الذي تناوشه الشهوات والنزعات والميول والأطماع..
الأمانة ـ يا عباد الله ـ هي التكاليف الشرعية، هي حقوق الله وحقوق العباد، فمن أداها فله الثواب، ومن ضيَّعها فعليه العقاب، كما قال - تعالى -في آخر الآية: ((لّيُعَذّبَ اللَّهُ المُنَـافِقِينَ وَالمُنَـافِقَـاتِ وَالمُشرِكِينَ وَالمُشرِكَـاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ وَالمُؤمِنَـاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً))، فقد روى أحمد والبيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (الصلاة أمانة، والوضوء أمانة، والوزن أمانة، والكيل أمانة) وأشياء عدّدها، (وأشدّ من ذلك الودائع) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)،، وقال أبو الدرداء - رضي الله عنه -: (والغسل من الجنابة أمانة) الجامع لأحكام القرآن للقرطبي (14/254)..
فمن اتَّصف بكمال الأمانة فقد استكمل الدين، ومن فقد صفة الأمانة فقد نبذ الدين كلَّه، كما روى الطبراني من حديث ابن عمر - رضي الله عنهما - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إيمان لمن لا أمانة له)) جزء من حديث أخرجه الطبراني في الأوسط (2292) وضعفه الألباني في ضعيف الترغيب (302).، وروى الإمام أحمد والبزار والطبراني من حديث أنس - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((لا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له))، ولهذا كانت الأمانة صفةَ المرسلين والمقربين، قال - تعالى -عن نوح وهود وصالح - عليهم السلام -: ((إِنِّي لَكُم رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ)) الشعراء: 107، 108
وكلما انتُقصت الأمانة نقصت شعب الإيمان لما روى مسلم من حديث حذيفة - رضي الله عنه - قال: حدثنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال ـ أي: في وسطها ـ، ثم نزل القرآن، فعلموا من القرآن، وعلموا من السنة، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال: ((ينام الرجل النومة، فتُقبض الأمانة من قلبه، فيظلّ أثرها مثل الوكت، ثم ينام الرجل، فتقبض الأمانة من قلبه، فيظل أثرها مثل أثر المجل، كجمر دحرجته على رجلك، فنفط فتراه منتبرا وليس فيه شيء))، ثم أخذ حصاة فدحرجها على رجله، ((فيصبح الناس يتبايعون، لا يكاد أحدٌ يؤدي الأمانة، حتى يقال: إن في بني فلان رجلا أمينا، وحتى يقال للرجل: ما أظرفه، وما في قلبه مثقال حبة من خردل من إيمان)) أخرجه مسلم في الإيمان (143)
والظاهر أن الرجل إذا تعمّد تضييع الأمانة بالتساهل في الفرائض وواجبات الدين وبالخيانة في حقوق العباد يعاقب بعد ذلك بقبض الأمانة من قلبه، وينزّه الله - تعالى -أن يقبض الأمانة من قلب أحد من غير سبب من العبد، ومن غير استخفاف منه بواجبات الدين وحقوق العباد، كما قال - تعالى -: ((فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُم وَاللَّهُ لاَ يَهدِى القَومَ الفَـاسِقِينَ)) الصف: 5. وآخر الحديث يدل على أن الأمانة هي الإيمان، وهي الدين وواجباته، فالتوحيد أمانة، والصلاة أمانة، والزكاة أمانة، والصيام أمانة، والحج أمانة، وصلة الرحم أمانة، والأمر بالمعروف أمانة، والنهي عن المنكر أمانة، والمال أمانة فلا تستعن به على المعصية، والعين أمانة فلا تنظر بها إلى ما حرّم الله، واليد أمانة، والفرج أمانة، والبطن أمانة فلا تأكل ما لا يحل لك، والأولاد عندك أمانة فلا تضيّع تربيتهم الصالحة، والزوجات عند الرجال أمانة فلا تضيّع حقوقهن، وحقوق الأزواج على النساء أمانة، وحقوق العباد المادية والمعنوية أمانة فلا تُنتقَص.
وقد وعد الله على أداء الأمانات والقيام بحقوقها أعظمَ الثواب فقال - تعالى -: ((وَالَّذِينَ هُم لأَمَـانَـاتِهِم وَعَهدِهِم راعُونَ وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلَواتِهِم يُحَـافِظُونَ أُولَـئِكَ هُمُ الوارِثُونَ الَّذِينَ يَرِثُونَ الفِردَوسَ هُم فِيهَا خَـالِدُونَ)) المؤمنون: 8-11، وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اكفلوا لي بستٍّ, أكفل لكم الجنة))، قلت: ما هن يا رسول الله؟ قال: ((الصلاة والزكاة والأمانة والفرج والبطن واللسان)) رواه الطبراني وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2899). قال المنذري: \"بإسناد لا بأس به..
والتفريط في الأمانات والتضييع لواجبات الدين يورث الخلل والفساد في أحوال الناس، ويجعل الحياة مرّة المذاق، ويقطّع أواصر المجتمع، ويعرّض المصالح الخاصة والعامة للخطر والهدر، ويُفسد المفاهيمَ والموازين، ويؤذن بخراب الكون، قال - صلى الله عليه وسلم - وقد سُئل: متى الساعة؟ قال: ((إذا ضُيِّعت الأمانة فانتظر الساعة)) السلسلة الصحيحة (1739)..
أسأل الله - جل وعلا - أن يقوي إيماننا وأن يرفع درجاتنا أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه انه هو الغفور الرحيم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه واشهد أن سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - الداعي إلى رضوانه وعلى آله وصحبه وجميع إخوانه... وبعد:
اتقوا الله عباد الله، وحافظوا على الأمانات والواجبات، واحذروا المحرمات، قال الله - تعالى -: ((وَالَّذِينَ هُم لأَمَـانَـاتِهِم وَعَهدِهِم راعُونَ وَالَّذِينَ هُم بِشَهَـاداتِهِم قَائِمُونَ وَالَّذِينَ هُم عَلَى صَلاَتِهِم يُحَافِظُونَ أُولَـئِكَ فِي جَنَّـاتٍ, مٌّكرَمُونَ)) المعارج: 32-35.
قال الله - تعالى -: ((إِنَّ اللَّهَ يَأمُرُكُم أَن تُؤدٌّوا الأَمَـانَـاتِ إِلَى أَهلِهَا وَإِذَا حَكَمتُم بَينَ النَّاسِ أَن تَحكُمُوا بِالعَدلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً)) النساء: 58، وهذه الآية المباركة عمّت جميع الأمانات.
ومن أعظم الأمانات الوظائف والأعمال والمناصب وحقوقها، فمن أدى ما يجب لله - تعالى -عليه فيها وحقَّق بها مصالحَ المسلمين التي أنيطَت بها والتي وُجدت لأجلها فقد نصح نفسه، وعمل خيراً لآخرته، ومن قصّر في واجبات وحقوق الوظائف والمناصب ولم يؤدِّ ما أُنيط بها من منافع العباد أو أخذ بها رشوة أو اختلس بها مالاً للمسلمين فقد غشّ نفسه وقدّم لها زادا يرديها، وغدر بنفسه وظلمها، وفي صحيح مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: ((إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة يُرفع لكل غادر لواء ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان)) أخرجه مسلم في الجهاد (1735.
ومن أعظم الأمانات الودائع والحقوق التي أمنك الناس عليها، وقد روى أحمد والبيهقي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلّها إلا الأمانة)، قال: (يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له: أدِّ أمانتك، فيقول: أي ربِّ، كيف وقد ذهبت الدنيا؟! فيقال: انطلقوا به إلى الهاوية، فيُنطلَق به إلى الهاوية، وتُمثّل له الأمانة كهيئتها يوم دُفعت إليه، فيراها فيعرفها، فيهوي في أثرها حتى يدركها، فيحملها على منكبيه حتى إذا ظن أنه خارج اخلولت عن منكبيه، فهو يهوي في أثرها أبدَ الآبدين) أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (5266)،
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا واختم لنا بخير واجعل عواقب أمورنا إلى خير وتوفنا وأنت راضٍ, عنا، اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ووفقهم واهدهم للعمل بكتابك وسنة نبيك محمد - صلى الله عليه وسلم - وهيء لهم البطانة الصالحة وانصر عبادك الموحين المجاهدين نصراً مؤزراً، اللهم انصر كل من جاهد في سبيلك لتكون كلمتك هي العليا نصراً مؤزراً يا رب العالمين، اللهم واشف مرضانا وارحم موتانا وعليك بمن عادانا بلغنا بما يرضيك آمالنا واختم بالباقيات الصالحات أعمالنا واحشرنا يوم القيامة في زمرة نبينا وتحت لواء حبيبنا واسقنا من يده الشريفة شربة هنيئة مريئة أبداً. آمين. آلا وصلوا على نبينا محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كما أمركم ربكم- تبارك وتعالى -حيث قال: {يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليماً} اللهم صلّ وسلم وبارك على رسولك ونبيك محمد وعلى آله وصحبه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد