روحانية داعية


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

في سيره لإعلاء كلمة الله، وبيان شرعه ونشر سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -، وأمره الناس بالمعروف ونهيهم عن المنكر، يمضي ذلك الداعية وقد وطنَّ نفسه على الجادة، وجاهدها على هوى المـادَّة، وعلمها أخلاقها ونقاها من أدرانها، وأدبها فأحسن تأديبها على منهاج النبيين وسنة سيد المرسلين وطريقة السلف ومن بعدهم من الخلف الصالحين المصلحين.

فيغدوا صادق النية، شامخ الهمة، عظيم العزيمة، قد أحاط نفسه بمراقبة الحكيم العليم، وحصر همه أن يرضى عنه العزيز الرحيم، ورطب لسانه بذكر الملك الكريم، وملئ قلبه حب رب العالمين.

 

يبذل من وقته وماله وصحته لدعوته ما يرجوه من الأجر والثواب..

ترى عينيه أشواكاً من الصعابº فيراها فؤاده أزهاراً كأنما قدمت للأحباب..

تمتلئ أذنه بسيلٍ, من كلمات السباب أو الشتائم أو سوء العتابº فيرجع صداها نسماتٍ, كلها رضى واحتساب..

يدعو ربه خيفةً وتضرعا أن يُيَسِّر له إلقاء تلك الكلمة، أو نشر تلك الورقة، أو تعليق تلك الصحيفة، ويزيد من ترطيب لسانه دوامه تلاوة {رَبِّ اشرَح لِي صَدرِي * وَيَسِّر لِي أَمرِي * وَاحلُل عُقدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفقَهُوا قَولِي}.

حتى في أصغر الأمور لا يهمل ولا يتكاسل عن طلب العون والمدد من مالك الملك عزوجل، وقد قرأ أن السلف رضوان الله عليهم كانوا يسألون كل شيء حتى الملح لطعامهم!

فيسأله أن يُيَسِّر له وسيلة النقل لتلك القرية، أو آلة النسخ لتلك المطوية، أو ذلك المال البسيط لشراء ما يعينه على دعوته من أشرطة أو كتب أو نحوها.

حتى إذا أقبل على ذلك العمل الدعوي، كان كالظمآن الواجد للماء، وكالمسافر المقبل على أحبابه، وكالأب المسرور بقدوم ابنه، ولله درها من لذة وما أعظمها من متعة، ذلك الحب المتدفق من قلبه لمدعويه، لا يريد منهم والله لا درهما ولا ديناراً، ولا أن يشكروه سرا أو جهارا، ولا أن يثنوا عليه ولا أن يعظموا شأنه كان حاضراً بينهم أو غائبا عنهم، بل لسان حاله: {وَمَا أَسأَلُكُم عَلَيهِ مِن أَجرٍ, إِن أَجرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ العَالَمِينَ} ولأنه يعلم علم اليقين أن ثنائهم وشكرهم لهم لا ينفعه في خريف الحسرة، فحمدهم لهم وذمٌّهم له سواء، وإعطائهم حقه ومغطهم إياه سواءٌ أيضا، قال الحسن - رحمه الله -: \" رحم الله رجلاً لم يغره كثرة ما يرى من الناس، ابن آدمº إنك تموت وحدك، وتدخل القبر وحدك، وتُبعث وحدك، وتُحاسب وحدك \".

وهو مع حبه العظيم لمدعويه رؤوف رحيم بهم يدعوا لهم بالصلاح والرشاد، سهلٌ كلامه، صادقٌ مزحه، حسن مظهره، جميل تعامله، مكظوم غيضه، معهود صدقه، مكبوت غضبه، محمودة صحبته، لطيفة دعابته، مباركة عشرته، مبثوث خيره، كثير عطائه، يتواضع للصغير، يوقر الكبير، يعفو عن الزلات، ويتغاضى عن الهفوات.

وحال أن يقابلهم بوجهه لا ينفك أن يتمتم: \" اللهم اجعلني خيراً مما يظنون واغفر لي ما لا يعلمون \" فهو يعلم عظيم ستر الله عليه، وكبير فضله عليه إذ أثنى لديه الركب وأنصت له الآذان، وولى شطره الوجوه والقلوب؟! وهو المقصر في حق الله، المفرط في الأمور والواجبات، الواقع في المعاصي والزلات.

حتى في أثناء حديثه معهم يراقب تلك النفس التي عالج نيتها أحد السلف أربعين سنة؟! فقد تخلد بطبيعهتا الإنسانية إلى العجب وحب الظهور والبحث عن المحمدة والسمعة، فتمنق تلك الكلمات وتزين تلك العبارات وتعلي صوتاً كان المناسب خفضه، وتستطرد وتتوسع في حديثٍ, كان الأولى اختصاره، ومرد ذلك كله الغفلة عن مراقبة تلك النفس وهي تجول وتصول في ساحة الدعوة، قال ابن القيم - رحمه الله -: \" لا شيء أفسد على الأعمال من العجب ورؤية النفس، ولا شيء أصلح لها من شهود العبد منَّة الله وتوفيقه والإستعانة به والإفتقار إليه وإخلاص العمل له \".

 

حتى إذا انتهى من عمله ذاك لزمت جوارحه حمد الله أن هيئ له ذلك العمل، ويسر له عمله، وأنه عزوجل أعزّه بفعل هذه الطاعة، في الوقت الذي يذل غيره بالمعصية.

كما لا ينسى من شدة محاسبته لنفسه أن يتعوذ في سائر يوم عمله ذاك، من خزي الرياء ومفسدة السمعة وفساد العجب، وإن ذكرت نفسه ذلك العمل أسكتها وألجمها بأنها تلك العاصية المقصرة، ويمل الملل أن يجد إليه سبيلاً في دعائه وتضرعه لربه أن يتقبل من ذلك العمل وأن يلبسه حلة الإخلاص وصفاء النية وجميل المقصد لأنه لا يعلم أُقبل ذلك العمل أم لا وقد قال أحد السلف - رحمهم الله - \" لا تثق بكثرة عملك فإنك لا تدري أيُقبل عنك أم لا؟! إن عملك مُغيبٌ عنك كله \"، ويبقى كاتماً لذلك العمل، كما يكتم سيئاته.

ومع هذا كله يتهم نفسه مراراً وتكرار أنها مقصرة لم تحسن العمل كما ينبغي، وأنه كان بإمكانها أن تزيد من إتقانها لذلك العمل حتى تحصل على محبة ربها.

 

تلك بعض معالم روحانية الداعية، لا يجدها وربي إلا من وضع الإخلاص نُصب عينيه، وإتقان العمل وعمل المستحيل لهذه الدعوة من أولويات حياته، عندها سيجد أنه من تلقاء نفسه قد أصبح كالعاشق لهذه الدعوة لا لشيء..وإنما لأنه حبيب الله.

 

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply