إن فنيت الغلات.. فالعمر أيضاً قد فني!!


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جاء رجل إلى عبد الله بن المبارك - رحمه الله - فسأله أن يقضي ديناً عليه، فكتب إلى وكيل له، فلما ورد عليه الكتاب، قال له الوكيل: كم الدين الذي سألت فيه عبد الله أن يقضيه عنك؟ قال: سبعمائة درهم، فكتب إلى عبد الله: إن هذا الرجل سألك أن تقضي سبعمائة درهم، فكتبت له بسبعة آلاف، وقد فنيت الغلات، فكتب إليه عبد الله: إن كانت الغلات قد فنيت، فإن العمر أيضاً قد فني، فأجر ما سبق به قلمي.

 

هذه واحدة من مآثر الرجل في سداد الدين عن الناس، وقضاء حوائجهم، والإسهام في إدخال السرور والسعادة عليهم..

أما الثانية، فقد كان كثير الاختلاف إلى طرسوس، وكان ينزل الرقة في خان، فكان شاب يختلف إليه، ويقوم بحوائجه، ويسمع منه الحديث، فقدم ذات مرة، ولم ير ذلك الشاب، فلما سأل عنه، أخبر أنه محبوس لدين ركبه، فقال عبد الله: وكم مبلغ دينه؟! قالوا: عشرة آلاف درهم، ثم أنه سأل عن صاحب الدين، فدعا به ليلاً، وأعطاه المبلغ كاملاً، ثم حلفه أن لا يخبر أحداً ما دام عبد الله حياً.

 

وأخرج الشاب من الحبس، وقيل له: عبد الله بن المبارك كان هاهنا وكان يذكرك، وقد خرج. فخرج الفتى في أثره، فلحقه.. فقال له ابن المبارك: يا فتى أين كنت؟ لم أرك في الخان؟ قال: نعم يا أبا عبد الرحمن كنت محبوساً بدين. قال: وكيف كان سبب خلاصك؟ قال: جاء رجل وقضى ديني، ولم أعلم به حتى أخرجت من الحبس.

 

فقال له عبد الله: يا فتى احمد الله على ما وفق لك من قضاء دينك.

 

بهذا الفقه ساد عبد الله بن المبارك - رحمه الله - في دنياه، على غير حب منه، أو حرص على هذه السيادة، فهو القائل: كن محباً للخمول كراهية بالشهرة، ولا تظهر من نفسك أنك تحب الخمول، فترفع نفسك، فإن دعواك الزهد من نفسك هي خروجك من الزهد لأنك تجر إلى نفسك الثناء والمدح. حتى قالت فيه أم هارون الرشيد يوماً، وهي ترى ازدحام الناس حوله، وقد تقطعت النعال، وارتفعت الغبرة: هذا والله الملك، لا ملك هارون الذي لا يجمع الناس إلا بِشُرَط وأعوان.

 

وبهذا الفقه أيضاً استحق مديح أئمة القوم وأعلامهم: فهذا الفضيل بن عياض - رحمه الله - يقول حين نعي إليه ابن المبارك: - رحمه الله - أما أنه ما خلف بعده مثله.

 

وكان سفيان - رحمه الله - يقول متمنياً: إني لأشتهي من عمري كله أن أكون سنة واحدة مثل عبد الله بن المبارك، فما أقدر أن أكون، ولا ثلاثة أيام.

 

أردت من هذه الوقفة مع هذا الإمام الكبير، أن أذكر الدعاة إلى الله بخصلة عظيمة افتقدناها كثيراً، حتى غدت في واقعنا أثراً بعد عين، وسراباً خادعاً بعد أن كانت ماءً زلالاً، يروي العطشى، ويسد رمق الجوعى، هذه الخصلة كانت من أهم ما امتاز به هذا الإمام الكريم، لأنها خصلة يحبها الله ورسوله، وهي السعي في قضاء الحاجات، وسداد الديون، وإدخال السرور، بعيداً عن المن أو الأذى بعد العطاء. فقد قيل عنه أنه كان ينفق على الفقراء في كل سنة مائة ألف درهم.

 

لقد كان حريصاً على أن تفنى أمواله في سبيله الله، قبل أن يفنى عمره..

 

قيل للفضيل بن عياض يوماً: لولاك وأصحابك ما اتجرت!! وهو الذي عوتب في كثرة ما ينفق ويقري.. فقال: إني أعرف مكان قوم لهم فضل وصدق، طلبوا الحديث وأحسنوا الطلب، فاحتاجوا، فإن تركناهم ضاع علمهم، وإن أعناهم بثوا العلم لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم- ، ولا أعلم بعد النبوة أفضل من بث العلم.

 

لقد تحولت هذه الخصلة من حرص على الإنفاق عند الأولين، إلى حرص على الإمساك والادخار عند الكثيرين منا.. حتى أصبح يفنى عمر أحدنا.. ولا تفنى أمواله أو غلاته على كثرة استهلاكها.. فمتى نحرص على الإنفاق في سبيل الله.. نساعد طلبة العلم، ونسد الدين، ونقضي الحاجات، وندخل السرور على الفقراء والمحتاجين.. فنجد في ذلك لذة البذل، وحلاوة العطاء، وبرد اليقين..؟

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply