كلمات في الخـوف


 

بسم الله الرحمن الرحيم 

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله أما بعد:

فإن منزلة الخوف من أجلِّ منازل العبودية، وأنفعها، وهي فرض على كل أحد.

قال الله – تعالى -: ( فَلا تَخَافُوهُم وَخَافُونِي إِن كُنتُم مُؤمِنِينَ ) [آل عمران: 175]، وقال: ( وَلِمَن خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) [الرحمن: 46].

تعريف الخوف:

1- قيل: الخوف توقع العقوبة على مجاري الأنفاس.

2- وقيل: الخوف قوة العلم بمجاري الأحكام.

3- وقيل: الخوف هرب القلب من حلول المكروه عند استشعاره.

4- وقيل: الخوف غمّ يلحق النفسº لتوقع مكروه.

أقوال في الخوف:

1- قال أبو حفص عمر بن مسلمة الحداد النيسابوري: الخوف سراج في القلب، به يبصر ما فيه من الخير والشر، وكل أحد إذا خفته هربت منه، إلا الله - عز وجل - فإنك إذا خفته هربت إليه.

فالخائف من ربه هارب إليه.

2- وقال أبو سليمان: ما فارق الخوف قلباً إلا خرب.

3- وقال إبراهيم بن سفيان: إذا سكن الخوف القلوب أحرق مواضع الشهوات منها، وطرد الدنيا عنها.

4- وقال ذو النون: الناس على الطريق ما لم يَزُل عنهم الخوفº فإذا زال الخوف ضلّوا الطريق.

الخوف المحمود:

الخوف المحمود الصادق: هو ما حال بين صاحبه وبين محارم الله - عز وجل - فإذا تجاوز ذلك خِيفَ منه اليأس والقنوط.

قال أبو عثمان الحِيري: صدق الخوف هو الورع عن الآثام ظاهـراً، وباطناً.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخوف المحمود ما حجزك عن محارم الله.

الخوف الواجب والخوف المستحب:

الخوف الواجب: هو ما حمل على فعل الواجبات، وترك المحرمات.

والخوف المستحب: هو ما حمل على فعل المستحبات، وترك المكروهات.

الجمع بين الخوف والرجاء والحب:

لا بدّ للعبد من الجمع بين هذه الأركان الثلاثةº لأن عبادة الله بالخوف وحده طريقة الخوارجº فهم لا يجمعون إليه الحبَّ والرجاءº ولهذا لا يجدون للعبادة لذة، ولا إليها رغبة، فيجعلون الخالق بمنزلة سلطان جائر.

وهذا يورث اليأس والقنوط من رحمة الله، وغايـتـُه إساءةُ الظن بالله، والكفر به - سبحانه -.

وعبادة الله بالرجاء وحده طريقة المرجئة الذين وقعوا في الغرور والأماني الباطلة، وترك العملِ الصالحِ، وغايـتُـه الخروجُ من الملة.

وعبادة الله بالحب وحده طريقة غلاة الصوفية الذين يقولون: نعبد الله لا خوفاً من ناره، ولا طمعاً في جنته، وإنما حبَّـاً لذاته.

وهذه طريقة فاسدة، ولها آثار وخيمة، منها الأمن من مكر الله، وغايتُه الزندقةُ، والخروج من الدين.

ولهذا قال السلف - رحمهم الله - كلمة مشهورة وهي: \" مَن عبدَ الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبده بالخوف وحده فهو حروريٌ - أي خارجي - ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبده بالخوف والحب والرجاء فهو مؤمن موحِّد \".

قال ابن القيم - رحمه الله -: \" القلب في سيره إلى الله - عز وجل - بمنزلة الطائرº فالمحبة رأسه، والخوف، والرجاء جناحاهº فمتى سلم الرأس والجناحان فالطائر جيِّـدُ الطيران، ومتى قطع الرأس مات الطائر، ومتى فقد الجناحان فهو عرضة لكل صائدٍ, وكاسر \".

أيهما يُغلَّب: الخوف أم الرجاء؟

قال ابن القيم - رحمه الله -: \" السلف استحبوا أن يُقَوِّي في الصحة جناح الخوف على جناح الرجاء، وعند الخروج من الدنيا يقوي جناح الرجاء على جناح الخوف، هذه طريقة أبي سليمان وغيره.

وقال: ينبغي للقلب أن يكون الغالب عليه الخوف، فإذا غلب الرجاء فَسَدَ.

وقال غيره: أكمل الأحوال اعتدال الرجاء والخوف، وغلبةُ الحبº فالمحبة هي المركَبُ، والرجاء حادٍ,، والخوف سائق، والله الموصل بمنِّه وكرمه \".

أقسام الخوف:

1- خوف السر: وهو خوف التَّأَلٌّه، والتعبد، والتقرب، وهو الذي يزجر صاحبه عن معصية مَن يخافهº خشيةً من أن يصيبه بما شاء من فقر، أو قتل، أو غضب، أو سلب نعمة، ونحو ذلك بقدرته ومشيئته.

فهذا القسم لا يجوز أن يصرف إلا لله - عز وجل - وصَرفُه له يعد من أجل العبادات، ومن أعظم واجبات القلب، بل هو ركن من أركان العبادة، ومن خشي الله على هذا الوجه فهو مخلص موحِّد.

ومن صرفه لغير الله فقد أشرك شركاً أكبرº إذ جعل لله نِداً في الخوف، وذلك كحال المشركين الذين يعتقدون في آلهتهم ذلك الاعتقاد، ولهذا يُخَوِّفون بها أولياء الرحمن، كما قال قوم هود - عليه السلام - الذين ذكر الله عنهم أنهم خوفوا هودًا بآلهتهم فقالوا: ( إِن نَقُولُ إِلاَّ اعتَرَاكَ بَعضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ, ) [هود: 54].

وكحال عباد القبورº فإنهم يخافون أصحاب القبور من الصالحين، بل من الطواغيت كما يخافون الله، بل أشدº ولهذا إذا توجَّهَت على أحدهم اليمينُ بالله أعطاك ما شئت من الأيمان صادقاً أو كاذباً، فإن كانت اليمين بصاحب التربة لم يُقدِم على اليمين إن كان كاذبًا.

وما ذاك إلا لأن المدفون في التراب أخوف عنده من الله.

وكذا إذا أصاب أحدًا منهم ظلمٌ لم يطلب كشفه إلا من المدفونين في التراب، وإذا أراد أحدهم أن يظلم أحداً فاستعاذ المظلوم بالله لم يُعذه، ولو استعاذ بصاحب التربة أو بتربته لم يُقدِم عليه بشيء، ولم يتعرض له بالأذى.  (*)

2- الخوف من وعيد الله: الذي توعد به العصاة، وهذا الخوف من أعلى مراتب الإيمان، وهو درجات، ومقامات، وأقسام - كما مضى ذكره قبل قليل -.

3- الخوف المحرم: وهو أن يترك الإنسان ما يجب عليه من الجهاد، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر بغير عذر إلا لخوف الناس.

وكحال من يفر من الزحفº خوفاً من لقاء العدوº فهذا خوف محرم، ولكنه لا يصل إلى الشرك.

4- الخوف الطبيعي: كالخوف من سَبُع، أو عدوٍ,ّ، أو هدم، أو غرق، ونحو ذلك مما يخشى ضرره الظاهريº فهذا لا يُذَمٌّ، وهو الذي ذكره الله عن موسى - عليه السلام - في قوله - عز وجل -: ( فَخَرَجَ مِنهَا خَائِفاً يَتَرَقَّبُ ) [القصص: 21]، وقوله: ( فَأَوجَسَ فِي نَفسِهِ خِيفَةً مُوسَى ) [طه: 67].

ويدخل في هذا القسم الخوف الذي يسبق لقاء العـدو، أو يسبق إلقاء الخطب في بداية الأمرº فهذا خـوف طبيعـي، ويحـمد إذا حمـل صـاحـبه على أخذ الأهبة والاستعداد، ويذم إذا رجع به إلى الانهزام وتركِ الإقدام.

5- الخوف الوهمي: كالخوف الذي ليس له سبب أصلاً، أو له سبب ضعيف جداًº فهذا خوف مذموم، ويدخل صاحبه في وصف الجبناء، وقد تعوذ النبي - صلى الله عليه وسلم - من الجبنº فهو من الأخلاق الرذيلة.

ولهذا كان الإيمان التام، والتوكل الصحيح، أعظمَ ما يدفع هذا النوع من الخوف، ويملأ القلب شجاعةº فكلما قوي إيمان العبد زال من قلبه الخوف من غير الله، وكلما ضعف إيمانه زاد وقوي خوفه من غير الله.

ولهذا فإن خواص المؤمنين وأقوياءهم تنقلب المخاوف في حقهم أمناً وطمأنينةº لقوة إيمانهم، ولسلامة يقينهم، وكمال توكلهم ( الَّذِينَ قَالَ لَهُم النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَد جَمَعُوا لَكُم فَاخشَوهُم فَزَادَهُم إِيمَاناً وَقَالُوا حَسبُنَا اللَّهُ وَنِعمَ الوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُوا بِنِعمَةٍ, مِن اللَّهِ وَفَضلٍ, لَم يَمسَسهُم سُوءٌ ) [آل عمران: 173 - 174]

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وسلام على المرسلين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.

 

(*) انظر: مدارج السالكين 1/507 ـ،513 وشروح كتاب التوحيد باب ( إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه ).

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply