خد العذراء


بسم الله الرحمن الرحيم

 

صوته الجهوري يمر عبر النوافذ إلى شارع الجنابات، يسلم على الدكاكين القديمة والباعة المتململين على حظوظهم منذ الحصار، مشيرًا بمسطرته التاريخية إلى خريطة تصور مدينتهم:

كل أرض بها الحصباء والطين والرمل تسمى (الكوفة)، وكل مدينة ساد فيها الاجتماع والألفة تسمى (خد العذراء).

والطالب النجيب يهز برأسه، يبدو مُطرَباً بسيمفونية الأستاذ (سليم)...

- أستاذ، وكل مدينة تتوشح بالبلاء تسمى بـ (كوفان)...

- حسن، يبدو أن الفرصة قد سنحت لإخبارك بأنك ستكون مرشحاً لإلقاء بعض قصائدك التي تقدمت بها للترشيح في مهرجان الكوفة الرابع عشر للشعر والشعراء.

غرفة الصف تكاد تسقط على رؤوسهم من هول تصفيق زملائه الطلاب، المسابقة كانت صعبة ومالك يستحق هذه الفرحة..

خارج حدود المدرسة، وفي أثناء العودة إلى المنزل يتجاذب مالك وعمار أطراف الحديث خصوصاً ما حدث اليوم من اختياره لهذا الحدث الكبير، والذي سيزور الكوفة لاحقاً، لم يكن الابتهاج حافلاً على روح مالك، كان يشعر ببعض الارتباك والضيق، لكنه حاول إخفاء ذلك عن أساتذته ومحبيه.

وحين وصلا إلى مفرق شارع الشيخ شاكر تفرق كل إلى داره.

لا يزال الجرس معطلاً، يطرق الباب رويداً رويداً حتى إذا ما أكلته الشمس طرق بشدة...

- (رفيدة) أنا مالك افتحي بسرعة، عندي لك خبر سار.

- (حاضر عيني)

- قبل أن تفتح فمك، كأس ماء بارد إذا سمحت..

- سأكون معهم، وأجلس بجوارهم، سأجري الحوارات والندوات...

- اختاروك للمهرجان، أليس كذلك؟

- نعم.. تعال إلى حضني

- (أبوس روحك، خذ هاي الفلوس وروح احجي مع أمي وبشرها)

- (هيجي ناوي)

بعد أن انهمكا في التعبير عن فرحتهم مرة بالضحك ومرة بالبكاء..

- الاتصال بدأ يضعف، سيبدأ المهرجان بعد أسبوع، ستكونين موجودة أليس كذلك؟

- لا أظن، عمك (صبري) حالته صعبة جداً، وسيُنقل ربما إلى الخارج..

- إلى أين؟!

- إلى الأردن وسأكون بمرافقته..

- أنتِ تضحين كثيراً من أجله، ألا يستحق ما أصابه، دعِ السموم تنفعه إذا..

- لا تقل ذلك، وإن كان زوج أمك، أظل زوجته ومن حقه علي أن أكمل معه المشوار، ثم إنه تاب والتوبة على الله...

ينقطع الاتصال.. يعاود مرات عدة ولكن لا فائدة..

رفيدة في الدار، كعروس تَخمُّ بفستانها كل هموم الماضي لتستقبل فرحة الآتي..

- سأكون في مقدمة الصفوف.

- لك مكان محجوز يا محجوزة القلب..

- تبتسم، ومتى سيكون دورك أخي؟

- الخامس من عشرة.

- سمعت أنكم ستختمون الأمسية بوجبة شواء على الفرات

- بالضبط في مطعم (بيت التنور العراقي).

القاعة الأولى بالمسرح الوطني، تغص بالحاضرين، بالتائهين في الحب والغرام، بالعالقين في جسر الكوفة، المنتظرين لعبارة سلام تنقلهم للإمام أو للأمام!!

والجو حار، كحرارة دم كربلاء، وكتنور نوح في الشمال!!

من يريد أن يعمل خيراً في هذا المهرجان فليقسم (مهفته) نصفين: له نصف ولمن بجانبه النصف الآخر، علّ وعسى أن يصب الشعر ماءً بارداً على الوجوه!! أو ليقل بأن العراق الذي أصبح حلماً: تحقق!!

أو بأن الوطن الذي ضاق به الحذاء، فضّل أن يمشي حافياً على الأشواك والحرير معاً....

وجاء دور مالك، وفي لحظة زفير طويلة انقلبت قاعة المسرح إلى حصباء ورمل وبلاء، ليبقى خد العذراء ملطخاً بدماء انفلتت من عروق كانت مشدودة البصر إلى وجه الشاعر الصغير...

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply