بسم الله الرحمن الرحيم
ابتسم الجراح الشهير ابتسامة صفراء باهتة وهو ينظر في وجه مريضه الممدد في استسلام على السرير الأبيض أمامه، وأخذ ينفث الكلمات باردة بطيئة.. كانت هذه هي اللحظة المناسبة التي ينتظرها منذ قام بإجراء الجراحة.. لحظة أن يفيق المريض وأن يكون قادراً على تحمل وقع الحقيقة..
قال الجراح: حمداً لله على سلامتك يا سعادة اللواء.
تمتم اللواء بصوت متهدج قليلاً: نحمد الله على كل حال..
لمح الطبيب نظرة الأسى البادية في عين اللواء فقال: لا يا رجل.. لا نريد أن نحزن.. على العكس تماماً يجب أن تكون سعيداً بنجاح الجراحة.. لقد كان الأمر صعباً..
نظر اللواء الممدد على الفراش باتجاه ساقه المبتورة وغمغم: لم يعد هناك فرق بين الحزن والسعادة.. لقد فقدت ساقي وأنا لم أتجاوز الخمسين من عمري..
أنجح الوسائل:
قال الطبيب بقسوة مباغتة: أنا جراح يا صديقي أعتقد أن البتر هو أنجح الوسائل وأكثرها فاعلية في التخلص من الألم.. هل تدرك سعادتك أنه كان بإمكاني أن أترك ساقك هذه تؤلمك طويلاً، وأن أكتب لك قائمة من الأدوية والعلاجات؟! لا يمكن أن أخفي عنك الحقيقة..
علق الطبيب جملته الأخيرة فنظر إليه اللواء مشدوهاً وبدا عليه الرعب من سماع الحقيقة التي زلزلت سلام كيانه النفسي.. فهو قد استسلم مضطراً للقضاء فماذا عسى الطبيب أن يصرح له الآن؟.. تعلقت عينا اللواء بعيني الطبيب اللتين كانتا ترقبان حالة القلق والتوتر على وجه اللواء بدقة.. وربما خالطها شعور غير ظاهر من النشوة والتشفي الخفي..
بعد لحظة صمت مرت على المريض كأنها دهر، قال الطبيب بصوت بارد أجوف: كانت هناك نسبة معقولة لنجاح العلاج الطويل.. صحيح أنها نسبة ضئيلة لكنها كانت مقبولة على أية حال.. ومع ذلك..
صمت الطبيب مرة أخرى ونظراته تنهش وجه مريضه الذي ينهش قلبه مزيج من مشاعر الألم والحسرة والدهشة.. كتم اللواء صرخته في حلقه، قرأ الطبيب ملامح الرجاء في عينيه ورغم الرجاء الصامت أكمل:
كانت نسبة نجاح العلاج معقولة لكنها مع ذلك كانت مغامرة.. ربما لم تنجح.. في هذه الحالة كنا سنلجأ إلى البتر حتماً..
لم ينطق المريض، لكن نظراته كانت تصرخ في وجه الطبيب: يا للهول!! سنلجأ للبتر! وأنت الآن أيها الأفاك ألم تلجأ للبتر!
استعاد الطبيب نبرة الإقناع في صوته وهو يقول: لقد جنبنا سعادتك بقرار البتر السريع مزيداً من الألم ومزيداً من التكاليف ومزيداً من الوقت.. فأنا أدرك تماماً قيمة الوقت عند سعادتك..
ترك الطبيب مريضه يهضم الجملة الأخيرة على مهل..
قيمة الوقت؟.. وأنا الآن بساق واحدة لم يعد هناك قيمة لأي قيمة في الحياة..
أضاف الطبيب وقد ارتسمت على وجهه أخيراً ابتسامة ودودة: والأهم من كل ذلك جنبنا سعادتك مضاعفات خطيرة كانت محتملة إذا فشل العلاج.. مضاعفات كانت محتملة بنسبة ضئيلة لكنها كانت محتملة تماماً على أية حال..
لم يعد هناك داع للمناقشة ولا للصراخ في وجه الطبيب ولا حتى مقاضاته أو التشهير به.. كل هذا لا يهم الآن، لأن شيئاً من ذلك لن يعيد الساق المبتورة إلى مكانها.. على اللواء أن يجتر الألم بصمت وأن يكتم أي تعبير من الممكن أن يلمحه من هذا الجرّاح الرهيب الواقف قبالته وألقى جملته الأخيرة وهو يخلع قفازه الشفاف من كفيه ويضعه بعناية شديدة في إناء التعقيم.
أضمن من المغامرة:
\"سعادتك رجل أمن وتدرك تماماً أن الإسراع في بتر العضو المريض أضمن بكثير من المغامرة بمحاولة علاجه\"..
أشاح اللواء بوجهه وأغمض عينيه لا يريد أن يرى هذا الوجه الكئيب.. ورغم ذلك شعر بحاسته الأمنية مدى المرارة العميقة التي حاول الطبيب إخفاءها في جملته الأخيرة..
انصرف الطبيب كما حضر بهدوء شديد كأنه يتسلل.. وترك المريض الممدد في الفراش في حالة غريبة.. أخذ اللواء يتذكر وقد ضيق عينيه وهو ينظر إلى اللاشيء.. لقد كانت هذه هي جملته الأثيرة لديه: العضو الفاسد لابد من بتره حتى لا يعدي الآخرين .. متى سمع الطبيب منه هذه الجملة؟.. هل سبق له أن رأى هذا الوجه الكريه بابتسامته الصفراء من قبل؟..
يعتصر الرجل ذاكرته يضيق عينيه أكثر فأكثر، كأنه يضيق الخناق على ذكرياته لتعترف أو تبوح له بسر هذا الحوار البغيض الذي أداره الجراح عامداً مستغلاً حالته المرضية.. لم يتذكر على وجه التحديد متى رأى هذا الوجه.. لكنه لابد بالتأكيد قد رآه يوماً ما في الزمن السابق .. لقد كان يردد هذه الجملة مرات عدة .. اقترب سعادة اللواء من حافة التذكر .. لكن من هو من بين هؤلاء جميعاً؟.. أمسك الرجل برأسه الذي كاد ينفجر .. أغمض عينيه .. كم من عضو فاسد أمر ببتره أو قام هو بنفسه بتنفيذ هذه العملية برصاص مسدسه الميري؟.. كان يؤدي واجبه المهني بكل تأكيد.. لم يكن هناك مجال للمغامرة.. قد يتم علاج العضو الفاسد، وقد ينتكس وقد يعدي الآخرين.. الحل الأسلم دائماً أن يبتره ويريح المجتمع من ضرره المتوقع..
ظل ابتسامة:
جلس الجراح إلى مكتبه الفخم وعلى شفتيه ظل ابتسامة كريهة.. كان يدرك أن شظايا قنبلته التي ألقاها في عقل سعادة اللواء تمزق أحشاء روحه الآن.. كانت كما قال لنفسه قنبلة دخان تصيب ولا تقتل.. قنبلة من الوهم.. الرجل لا يستطيع أن يمسك عليه شيئاً.. لا يستطيع حتى أن يتأكد من صدق المعلومات التي قذف بها في رأسه.. ودمعت عينا الطبيب وقد عادت لوجهه مشاعر آدمية حانية.. تذكر أخاه وهو يسقط مضرجاً في دماه منذ عشرين سنة.. كان يومها غضاً طرياً يؤمن بالمبادئ العليا والمثل.. مجرد طالب بالكاد يقف على أعتاب الجامعة..اقتطفته يد الضابط الرهيب الذي كان يحمي المجتمع من عضو شك في فساده..استرسل الطبيب في ذكرياته .. وأخيراً سمع صوت ضحكته البشعة وهو يردد لنفسه:لن يستطيع أبداً أن يتحقق من صدق المعلومة التي تمزق أحشاءه الآن.. سيظل ما بقي من عمره يتساءل: هل كان في إمكان الطب أن يجنبه بتر ساقه؟.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد