بسم الله الرحمن الرحيم
في ليلة لا تسمع فيها إلا صوت الرعد القاصف، وهيجان الريح المرعب.في ليلة انطفأت فيها الأنوار وأظلم البيت وانعدمت الكهرباء. في ليلة ممطرة باردة. في ليلة اسودَّ ليلها وغابت نجومها. في ليلة حرك رعبها قلبي، وهز بردها جسمي، لا أرى مد يدي، ظلام حالك وجو مرعب، أغلقت شباك غرفتي لأقلل وحشتي، أنفاسي تتقطع في صدري، لا أحد حولي، ولا أمي ولا أبي، ولا أختي ولا أخي، وحيداً فريداً مرعوباً خائفاً، لا أستطيع فتح عيني خوفاً من مصير لا أعلمه ينتظرني.
وفجأة وإذا بخفقات تزيد، ونبض دمي يعلو، فما شعرت إلا وشيء يكتم أنفاسي، صحت بأعلى صوتي، ضاق نَفَسي، بردت أطرافي، هملت يداي، ناديت يا إخوتي أصدقائي أغيثوني، ما هذا الذي داهمني آتوني بطبيبي، بل بصديقي وأخي وحبيبي، لكن واحسرتاه.. واحسرتاه... أصيح بأعلى صوتي فلا أسمع سوى صدى ندائي يتردد في أرجاء غرفتي المظلمة.
قلبي يخفق بأعجوبة، كأني أتنفس من خرم إبرة. أيقنت عندها أنه جاء يطلبني، توسلت إليه ليمهلني لينظرني ولو ساعة من نهار، لكن دون جدوى، كان شديداً غاضباً مني، عيناه تحكي حقده عليَّ، رفض توسلي إليه، قال بأعلى صوته: ألم تعرفني؟ ألم تسمع بي؟ قلت: بلى... أنتَ من جاء ليغمض عيني ويلفني بأكفاني، بل ويبعدني عن أهلي وأحبابي، أنت من جاء ليخطفني من بين أشرطتي وقنواتي، ويدمر تسليتي بألعابي.
ردَّ بصوت مخيف: إنك راحل، وإلى مطار تعرفه مسافر. زادت آلامي، وحُبست في جوفي أحرفي قبل كلماتي.
انتهرني قائلاً لِمَ تنساني، لِمَ تنساني....
ارتجت كلماتي وخانني لساني، ما فكرت يوماً أنك تطلبني، ما فكرت يوماً أنك تطرق بابي لتعيدني لصوابي، وتغلق صفحة حياتي، وتقطع استمتاعي بشبابي.
عندها تذكرت أنها صيحات فراق، وآلام وداع، أودع الدنيا راحلاً إلى مطار أرضه غير مرصوفة، وسادته التراب، ومستقبلوه الدود، وغطاؤه اللحود، برده شديد يفتك العظام، يقطع الأوصال، يمحو الملامح والشباب، وتسيل منه العينان على الخدان، ويتدلى منه اللسان، نداؤه لا يُسمع، وتوسله لا يُجاب، إذاً قد أصبح بينه وبين الدنيا حجاب...
صحتُ بأعلى صوتي: آهٍ,... لو أعود.
سحبت جسمي وأسندت ظهري على جدار غرفتي المرعب وأنا أشعر بالوهن والمرض يدبٌّ إلي. هل هو الموت؟ هل انتهت أيامي وجاء لقائي بربي؟ حزنت... بكيت... رفعت صوتي، أيقنت أن لا أحد يسمعني. شبح الموت يتراءي أمام ناظري، تدحرجت دموعي على خدي، خوفاً وهلعاً أن أفارق الحياة وأنا في ريعان الشباب. آهات وآلام تحفز دموع الندم، لتقول لي: كم من متعة استمتعتها، وشريط غناء سمعته، وصلاة تكاسلت عنها، ارتعش لساني وخرجت كلماتي: بأي وجه أقابل ربِّي؟ كيف أعتذر وقد خنته؟ هل سيعفو عني أم سيلقي بي غير مبالٍ, إلى النار؟ الأسئلة الملحة تطاردني، والحسرة والندم ينهشان قلبي. سأهرب ولكن إلى أين؟ الدنيا كلها لن تخفيني ممن يطاردني، لساني يلهث يردد رحماك ربِّي... إلهي أتوسل إليك أمهلني لازلت في ريعان شبابي، سفينة حياتي تتحطم على صخرة النهاية. الموت يدكها.. يحطمها.. يكسرها بشراسة كأن بينه وبينها عداوة... رحماك ربي.
وما هي إلا لحظات وإذا بباب البيت يفتح مبشراً بوصول أهلي، فرحت فرحاً لا يوصف، استجمعت أنفاسي ودَّبت الحياة لأعضائي، تحرك لساني، ناديتهم بأعلى صوتي، وهو يطاردني جاثم على صدري، أمي الحبيبة أدركيني... حبيبك يغادر الدنيا، تودع آخر أنفاسه الحياة. أمي الحبيبة أدركيني... حبيبك أنفاسه محجوزة، ومن الموت مفزوعة، أمي الحنون أين أنتِ عني؟ أين حنانك مني؟ بل أين حبُّك لي؟ أماه امنعيني ومن الموت أجيريني.. حبيبك يموت... أماه مُدِّي لي يدك اعلق فيها آخر أنفاس الحياة. أماه مُدِّي لي يدك أقبِّلها.. أودعها... أشمّ فيها رائحة المحبة. أمي الحبيبة سامحيني كم تطاولت يوماً عليك. أماه إنها لحظات الوداع وزفرات الفراق. دنت مني أمي ودموعها تكاد تغرقني. نادتني حبيبي حياتي، أفديك بنفسي، وضعت رأسي علي حجرها، وأمسكت يدي بيدها، بكاؤها يقطع قلبي ويزيدني ألماً فوق ألمي. صحت: آه آه يا أماه من شيء يقطع قلبي، يمزق أعضائي، يجري مع دمي، بل يا أماه يكسر عظامي.. آه لو تعلمين.. إنه ألم شديد وفراق إلى مدى بعيد.. زاد بكاؤها ورفعت يديها إلى السماء تدعو إلهي: أمهل حبيبي ليتوب، ليعود. إلهي لا تخيب رجائي فيك.
مددت يدي لأختي... لأخي... لأبي... تعلقتُ بهم.. وداعاً أحبَّتي.. علا بكاؤهم، وزاد أساهم، يرون آلامي لا تُوصف، تعجز عن وصفها الأقلام، ويقف عنها عاجزاً الكلام.. جبال على صدري، وهموم تثقلني.. إلهي من يفرِّج همي وينفِّس كربتي.. اشتد نزعي، ضاق والله بها صدري.. ينادونني قل لا إله إلا الله. وذاك يقول احملوه للمستشفى لازال فيه حياة. حُملت للمستشفى، واستقبلت بحفاوة، ووضعت بين الأجهزة في غرفة الإنعاش.. هذا بإبرة وذاك بأكسوجينه، وآخر ينعش بضربات القلب. حاولوا ثم حاولوا. لكن لم يستطيعوا انتشالي من بين فكي الموت، لقد شدَّ عليَّ بأسنانه وشدَّ علي بأضراسه.
وبعد ساعات حار الطبيب بعلمه، وانثنى منكساً رأسه معلناً أمام الموت فشله. خرج لأهلي، دموعه على خده قابضاً يده. تعالوا لتحضروا وفاته. دخلوا الغرفة كلهم، ولساني يهذي بأمور لا أشعر بها. حكيت لهم قصة حياتي، بشريط مسجل على لساني، كنتُ مظهراً التزامي وأمامهم مبتعداً عن الملهيات والأغاني، وإذا بهم يتفاجئون بالحقيقة المرَّة. انكشف الغطاء وبدأ الزيف والافتراء. حقيقة مُرة وكذبة كبيرة، عشت فيها سنين. تذكرت عندها كلاماً لسفيان الثوري: أكبر خيانة أن يخونك لسانك عند الموت فلا ينطق بها. أتعرف ما هي؟ إنها الشهادة، وفجأة تجمع الأطباء حولي واشتد نزعي، وصِحتُ بأعلى صوتي: آه لو أعود. من منكم يزيدني من عمره ساعة.. دقيقة.. ثانية؟
لأكتشف الحقيقة وأحطم زيف الكذبة، كل منهم ودمعه ينهال على خديه قابضاً من الحزن يديه.
وفجأة وإذا بأجهزة الأطباء تضطرب وتخفق بسرعة، هوت كلها إلى مؤشر الصفر معلنة النهاية، فدقت أجراسها خطراً، وعلا صوتها منذراً، وانطفأت كلها وفاضت معها روحي. ورأى الكل مصرعي بل نهاية حياتي وبداية قيامتي، خرج الجميع من الغرفة وتركوني وحيداً فريداً في غرفة باردة، تركوني مع أيدٍ, غريبة تقلبني وتلفني بأثواب. ربطوا بها يدي، وشدوا بها رأسي، واستدعوا موظف الثلاجة ليحملني على عربته وحيداً لا مرافق لي، تركني أهلي كأنهم خائفون مني مستوحشون من حالي، لا جرأ أحد منهم على لمسي، أدخلت الثلاجة وفتحت لي أبوابها، حملني اثنان وعن العربة أنزلوني، وفي الدرج الأول تركوني، مكان ضيق كأنه لحد.
أغلقوا علي إغلاقاً محكماً، ثم أقفلوها خارجين و إلي أعمالهم عائدين، أطفئوا الأنوار، زاد برد الثلاجة، كل ما فيها أناس صامتون، جيران لا يتكلمون، لا نفس فيسمع، ولا داعي فيجاب، كنت أمر بقرب هذا المكان لا أستطيع النظر إليه خوفاً منه وها أنا اليوم أودع فيها، يا لها من نهاية، وما هي إلا لحظات وإذا بأبواب تُفتح، ضجيج وأصوات عالية، ومن بينهم صوت يقول: أنا أغسله، وآخر أنا أكفنه.
أخرجوني من درجي ووضعوني على مكان غسلي، كأنهم خائفون مني، خلعوا ملابسي وستروا عورتي، صبوا الماء فوق رأسي وغسلوني، قرَّبوا الأكفان ونشروها ثم طيَّبوها، حملت بين أيديهم ألقوني بينها، بدأوا بتغطية وجهي، أوثقوني بالأربطة، ما أشده وأظلمه من غطاء، قبَّلني أبي وأخي، واستدعيت أمي فلم تتمالك نفسها، حنت رأسها عليَّ وقبَّلتني.
تركوني في ناحية المسجد وحيداً، انتهت الصلاة وتداعى أحبتي: إلينا بعبد الله فاحملوه وللصلاة قرِّبوه، حُملت بين الأيدي، ورفعت على الأعناق صلى الناس وخرجوا.
حُملت على الأكتاف تتبعني الدعوات: اللهم ثبَّته عند السؤال، أين أصبح أصحابي يا أحبابي، دعوني معكم ولو ليلة، أترمون بي؟! قد كنت لكم خادماً أخاً صادقاً، أفي حفرة تودعونني؟ ضاعت هداياي لكم وخدماتي، كم ليلة سامرتكم أضحكتكم صدق فيَّ حديث المصطفى - صلى الله عليه وسلم -، حديث قد طرق سمعي لكني لم أعره بالاً، تذكرت قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا وضعت الجنازة واحتملها على أعناقهم، فإن كانت صالحة قالت: قدِّموني قدَّموني، وإن كانت غير صالحة قالت: يا ويلها أين تذهبون بها، يسمع صوتها كل شيء إلا الإنسان ولو سمعها لصُعق)) [رواه البخاري والنسائي والبيهقي وأحمد].
تنادي جنازتي: دعوني... دعوني... أعرف ما أمامي، إنها أشرطتي وأفلامي، أنزلوني... أنزلوني.
أما تسمعون ندائي... لا أحد يبالي... وضعوني على شفير القبر وحافته، أرى قبري يُحفر أمامي. يا أبي أتحفر لي لتواريني، أنظر إلي قبري كأني أعرفه موحش، مظلم، مقفر. آه... يا إلهي ما أوحشة، طين وتراب، صخور كبيرة تكتم الأنفاس، هاهم انتهوا وللطين قربوا، نادوا إلينا بالجنازة، حملها الأقربون مسرعين ينتحبون، بكاؤهم يزيد يعلمون أني مغيب إلى مدى بعيد، أنزلوني، استقبلني أبي وأخي الأكبر، وسدٌّوا لي التراب، وضعوا جنبي بين اللحود. عندها ودَّعت الدنيا. وداعاً أيتها الشمس، آه... أيها الظلام، حلوا رباط أكفاني، قبَّلني أبي ودعا لي، نادوا باللحود حجارة كبيرة وضعوها فوق رأسي على رجلي وغطوا جسدي، أصيح فلا مجيب، أيها الناس أغلقتم منافذ الهواء، فإذا بالنداء لا يقرع إلا آذاناً صماء. زادوا علي التراب، تراب فوق تراب، الكل يحثو حتى ردموا الحفرة وأغلقوا معها آخر أنفاس الحياة، تهيأوا للرحيل..
ذهبوا وأبقوني وحيداً، ذهبوا وتركوني أسامر الدود، استقبلني القبر بضمته، واللحد بغمته، أخذ التراب ينهال على وجهي، كفى أيها المستقبلون، أهكذا تستقبلون ضيفكم: ردَّ القبر بصوت مرعب: أما سمعت في الدنيا ندائي ((ما من يوم يطلع فجره إلا وينادي القبر: أنا بيت الظلمة، أنا بيت الوحشة، أنا بيت الدود، اسمع إلى ترحيبي: إذا وُضع العبد الفاجر في جوفي قلت له: لا أهلاً ولا مرحباً، أما والله قد كنت أبغض من يمشي على ظهري، إلي فقد وليتك اليوم فسترى صنيعي بك. فأضمه ضمة حتى تختلف أضلاعه، ثم يوكل به سبعون تنيناً ينهشونه ويخدشونه حتى يفضى به إلى الحساب)) [كما في سنن الترمذي].
هذا هو ندائي أما سمعت به؟! نعم قد سمعته وطرق أذني، ولكني تباعدت اللقاء بل تناسيته. أمهلني أيها القبر لأعود. انتهرني قائلاً: تعود، كلا قد فات الآوان.
عندها دبَّ الدود على وجهي وبدأ يأكل أكفاني، صحت بأعلى صوتي: آه. آه لو أعود. آه. آه لو أعود.
استيقظ أبي وفتح باب غرفتي: بُنيّ ما بك؟ أبي... أمي... آه لو أعود.
بنيَّ من أين تعود؟ أنت في البيت، تعلقت به يا أبي أنقذني، أبعد الدود عن وجهي.
بنيَّ لا تخف أنت في بيتك، تجمع إخواني أنا في صيحة واحدة: آه لو أعود. أضاءوا الأنوار وإذا بي بينهم..
تلمست أيديهم، عندها أدركت أنني لازلت على قيد الحياة.
آه يا لله! يا له من حلم... ما أبشعه، بل وأوحشه، قد هزَّ كياني أرعبني ومن الآخرة أدناني، جلست على فراشي، ها أنت يا عبد الله في مهلة إذاً فاعمل.
تذكرت الربيع بن خيثم وقبره: حفر له قبراً داخل بيته فكان إذا مالت نفسه إلي الدنيا نزل في قبره، وإذا ما رأى ظلمة القبر ووحشته صاح {رَبِّ ارجِعُونِ} فيسمعه أهله فيفتحون له، وفي ليلة نزل قبره وغطى بغطائه. فلما استوحش داخله نادى {رَبِّ ارجِعُونِ} فلم يسمع له أحد. وبعد زمن طويل، سمعته زوجته، فأسرعت إليه وأخرجته. فقال عند خروجه: (اعمل يا ربيع قبل أن تقول رب ارجعون فلا يجيبك أحد) [صلاح الأمة في علو الهمة]
عرفت أنه لا طريق للنجاة إلا طريق الاستقامة.
كسرت أشرطتي، وحرقت مجلاتي، جددت استقامتي البالية، قطعت حبل كل ودٍّ, بزملائي القدامى، واتجهت إلى ربي: إليك ربي، إليك ربي.
فكلما نويت بمعصية تذكرت تلك الرحلة التي رحلتها، فوالله بعدها ما هممت بمعصية..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد