بسم الله الرحمن الرحيم
عندما دخل الأستاذ أحمد إلى البيت كان الوقت متأخراً لم تشأ زوجته مريم أن تفتح معه الموضوع ورأت أن تؤجل ذلك إلى الصباح، أحضرت لزوجها العشاء وأخبرته أنها ستنام.
- الآن، لا زال الوقت باكراً... ما هذا الوجوم على وجهك، هل تعانين من شيء؟
- لا، لا شيء، إنه مجرد تعب العمل والأولاد... سأنام... الأفضل أن أنام.
- كما تريدين... تصبحين على خير... أيقظيني الساعة السابعة.. يجب ألا أتأخر لدي موعد مهم.
دخلت مريم غرفتها وهي حزينة بائسة لا تدري كيف ستخبره، وفكرت بينها وبين نفسها بأن تبدأ بالمقدمات، حتى يكون هو من يبادر بطرح الفكرة، ستخبره عن التعب الذي تعانيه داخل البيت وخارجه، خاصة بعد أن زاد دوام العمل حتى الخامسة، وستخبره أن الأولاد بدأوا في مرحلة دراسية جديدة تحتاج منها لمزيد من الجهد والتعب... لذا هم يحتاجون لمزيد من العناية... ولكنه لن يوافق... أعرف أنه لن يوافق.
يوافق... لن يوافق، بقيت مريم طوال الليل تحدث نفسها حتى بزغ الصبح، ولم تنم دقيقة واحدة... وبدا عليها مظاهر التعب والإرهاق.
- ما بك؟ تبدين تعبة جداً؟ ألم تنامي جيداً في الأمس مع إنك نمت باكراً؟
- صحيح؟ لم أنم؟ وأنت؟
- أنا... أوه تمام؟ أخبريني ماذا لديك اليوم؟
ها هو الآن يفتح الحديث... جاءت الفرصة...
- أوه لا شيء، ماذا تريد أن تأكل؟
- أي شيء… غير مهم...
- أجل، لأني سأذهب بعد العمل عند أختي... فهناك لقاء لنساء الجمعية وقد دعتني أختي إلى هناك.
- اذهبي... ومنذ متى أنت تسأليني؟...
- اسمع... هناك موضوع أريد أن أحدثك به... أنت تعلم أن المدرسة قد بدأت والأولاد يحتاجون لمزيد من العناية والتدريس...
- أيه... وماذا بعد...
- بصراحة... لم أعد أستطيع أن استوعب كل هذا الضغط، فأنا عليّ أن اعمل خارج المنزل وداخله، وعلي أن أدرس الأولاد وأطبخ و... و... و فكيف عساي أن أقوم بهذا العمل كله... لقد تعبت...
- الأمر بسيط... تعلمين أني لا أحبذ عملك... عدا أننا لا نحتاجه... فعملي والحمد لله مردوده جيد... ولقد طلبت منك مراراً أن تتركي العمل وأنت رفضت بحجة أنك لا تريدين أن تبقي في البيت تعملين كالخادمة.
- أنت تعلم أن موضوع عملي لا مجال للنقاش فيه، وأنا كنت أتحمل كل هذا الضغط سابقاً حتى لا تقول لي اتركي العمل، ولكن بصراحة... أنا تعبت... ولقد أخبرتني أختي البارحة أنها تستطيع أن تؤمن لي خادمة بمبلغ زهيد... تسعمائة دولار فقط... ما رأيك؟
- أنا ذاهب إلى العمل... رأيي تعلميه مسبقاً... أنا أرفض أن تعيش معنا امرأة غريبة في البيت... هذا الكلام مرفوض بشكل نهائي وقاطع...
- ولكن أنت لا تشعر معي... أنا أتعب طوال النهار... ثم أتي لأدرس أولادك... ألا يحق لي أن أعيش كما يعيش الأناس الآخرون... ثم أنا لن أطلب منك شيئاً... أنا سأدفع المبلغ بكامله... وأنا سأقوم بكافة الاجراءات... ولن أدعها تزعجك نهائياً... وسأبقى أنا أطبخ وأهتم بشئونك الخاصة... هي فقط ستهتم بأعمال البيت... وافق أرجوك...
- افعلي ما بدا لك... ولكن اعلمي أن لا دخل لي في شيء... ولن اعترف بشيء... مفهوم
- مفهوم... مفهوم... لن أزعجك مطلقاً... سوف ترى.
إنشغلت مريم بالاستعدادات لقدوم الضيف الجديد... فهيئت لها غرفة خاصة للنوم جهزتها بكل وسائل الراحة من تلفزيون وراديو... كل شيء تقريباً ما عدا الثياب التي أجلّت أمر شراؤهم إلى حين قدومها.
عندما حان الموعد المحدد لمجيئها كان الوقت ليلاً، فذهبت مريم إلى المطار لتحضرها، ولم تعد إلا بعد ساعتين تقريباً... كان الجميع في البيت بانتظارها... حتى أحمد الذي لم يكن يظهر على نفسه الاهتمام... دفعته حشريته إلى أن يرى شكل الضيف الجديد...
عندما دخلت إلى البيت ذهل الجميع...
- ما هذا يا أمي؟ ولكنها هزيلة جداً...
- لا عليكم، المسألة مسألة وقت... سترون كيف تصبح بأقل من شهر.
دخلت \" كوماري \" البيت، نظرت إلى صاحب البيت بخوف، بينما اكتفى هو بالنظر إليها من تحت الجريدة، وبقيت مريم منشغلة بتأمين أغراضها والقيام بالفحوصات اللازمة لها طوال أسبوع كامل، حتى أنها نحلت قليلاً، ولكنها لم تجرؤ على التفوه بكلمة...
بعد مضي شهر تماماً من التدريب والتعب بدأت مريم تلقى النتيجة المرجوة، وألقت بالحمل كله على \" كوماري \" التي كانت تهتم بشؤون البيت كله، فهي التي تنظف وتغسل وتكوي، كل شيء، ما عدا الطبخ والاهتمام بالزوج وتدريس الأولاد الذي سرعان ما وكّلت بهذه المهمة لبنت الجيران بعد أن اتفقت معها على مبلغ شهري...
مرت الأيام بل وحتى الشهور داخل بيت أحمد، والوضع شبه مستتب تقريباً، إذ لم تعد مريم تشكو من شيء، والأولاد مرتاحون مع معلمتهم الجديدة التي لا تخرج من عندهم إلا بعد أن يكونوا قد أنهوا دروسهم... كل أهل البيت مرتاحون إلا أحمد الذي كان يشعر بالضيق والانزعاج ولا يدري السبب من وراء ذلك... فهو إذا أكل الطعام لا يستسيغه ولا يجد فيه الطعم اللذيذ الذي كان يعهده سابقاً مع كونه لم يكن يأكل الطبيخ الطازج إلا نادراً، وإذا جلس مع عائلته مساء لا يكاد يجد أحداً أمامه، فالأولاد إما يدرسون أو يلعبون، أما زوجته، فهي لا تجلس أمامه إلا إذا كانت تريد أن تطلب منه شيئاً، وإلا فهي في اجتماعاتها أو تتكلم على الهاتف، حتى وإن كانت جالسة أمامه فهي لا تحدثه بل دائمة السرحان والوجوم، وإذا طلب منها طلباً ما بادرت فوراً تنادي \" كوماري \" أحضري \"لمستر\" ما يطلبه.
كل هذه الأمور كانت تحدث وأحمد صامت لا يتكلم ولا يبدي اعتراضاً، اللهم إلا توجيه الملاحظة تلو الأخرى، ومريم توعده بأنها ستصلح الأمر وسيكون كما يريد ويشاء.
وبقي الأمر على هذا الحال إلى أن عاد أحمد ذات يوم إلى منزله ظهراً، بعد أن شعر بوعكة صحية فضّل على أثرها العودة إلى البيت والنوم، عندما دخل إلى البيت، لم يكن هناك أحد، مع أن الوقت كان ظهراً، فالأولاد لم يصلوا بعد من المدرسة، ومريم في عملها، لم يكن هناك إلا كوماري، دخل البيت واتجه مباشرة إلى المطبخ، وصرخ صرخة قوية \" ماذا تفعلين؟ \"
- اوه، مستر لقد جئت،... أوه... أنا... لا شيء... أنا اطبخ مستر...
- تطبخين... ومنذ متى وأنت تطبخين...
- أوه... منذ زمن طويل... بعد شهرين من مجيئي.
شعر أحمد بدوار حاد... وصعد إلى غرفته... وهو لا يصدق، بعد شهرين من وصولها وهي تطبخ، وزوجته تدعي أنها هي التي تطبخ وتهتم به... ما هذا؟ أمر لا يصدق.
عندما عادت زوجته إلى البيت مساء، كان أحمد نائماً، فأيقظته وسألته عن سبب مجيئه الباكر، وعرضت عليه أن تحضر الطعام.
- تحضرين الطعام... من يحضره أنت أم كوماري...
- أنا طبعاً... ومنذ متى تحضر لك كوماري الطعام...
- منذ عشرة أشهر يا حبيبتي... بعد شهرين من وصولها... اسمعي لقد طفح الكيل، لم أعد أستطيع أن أتحمل هذه الحياة... يجب أن يعود الوضع كما كان سابقاً، أنا لا أرضى بهذا أبداً، ستتركين العمل وتتفرغين للبيت...
- ما هذا الهراء؟ ومن تظنني حتى أوافقك على ما تريد؟ أنا الذي طفح الكيل أنت لا تريد زوجة بل خادمة.
- زوجة، وماذا لدي من حقوق الزوجية، استحلفك بالله، لا أريد أن ادخل بجدل عقيم؟ اختاري الآن، أما أن نتخلص من الخادمة... أو..
- أو ماذا؟ هل تهددني؟ تريدني أن أعود إلى حياة الشقاء والتعاسة؟ لا... لن افعل ذلك... افعل ما بدا لك... سأذهب عند أهلي... تعرف أين تجدني.
- إذا خرجت اعتبري أن كل شيء قد انتهى بيننا...
وفعلاً لم تنفع كل محاولات الإصلاح التي قام بها المحبون، وقام أحمد باجراءات الطلاق، وأتت مريم إلى البيت، أخذت أغراضها وأخذت معها كوماري، وودّعت أولادها وقالت لهم : سنرى كيف يتصرف والدكم من دوني، سترون، سيعود إليّ، لا تخافوا، سأعود.
ما أن غادرت مريم البيت حتى دُقّ الباب، قام أحمد ليفتح، كان ذلك نبيل صديقه وزوجته جاءوا لزيارته ومعهم \" مانيكا\" الفتاة السيرلنكية التي كانت تخدم عندهم في البيت، فهم سيهاجرون إلى كندا، ولن يستطيعوا أن يأخذوها معهم، وباقي لها فترة سنتين حتى ينتهي العقد معها.
- انظر، هذه أوراقها، لقد جدّدتها كلها، وهذا تنازل مني باسمك،... ولا تخف هي بارعة في كل شيء، وهي تطبخ طعاماً لذيذاً جداً...
- جيد...هذا هو المطلوب... ماذا تشربون... مانيكا... اصنعي قهوة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد