هزتهم جرأتها


 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

 

سنتان من العنت والقهر في الزنازين المعتمة..سنتان قضتهما مع العذاب والأسى..
جسدها الضعيف تحمل كل تلك السياط الملتهبة..
ظلت صامدة بالرغم من الكي والضرب بالعصي طيلة هذه المدة ..
آثار أحذيتهم الغليظة على جسدها لازالت تذكرها بهمجيتهم وسوء طويتهم..
مدت يدها تتحسس أسنانها المتكسرة..
                                                                                                          

تنهدت وأرسلت زفيراً حاراً يعبر عن المرارة التي تعيشها في سجنهم البغيض ..
ـ آآآهـ .. ماذا تركتم من فنون الإذلال لامرأة ضعيفة مثلي ..؟!!
ـ ماذا نسيتم من أساليب القهر لم تصبوه على جسدي المتهالك ..؟!!
ـ وبعد كل هذا الذي فعلتموه.. هل أطفأتم شهوة الانتقام المتأججة في صدوركم العفنة ؟!!
ـ هل أشفيتم غليل أحقادكم المتراكمة؟!!
ـ هل شعرتم بزهو الانتصار وأنتم تسلطون كلابكم القذرة على فتاة ضعيفة خائرة القوى لم تتجاوز الخامسة عشرة من عمرها..
ـ يا ويحكم.. أي الرجال تكونون؟!! بل أي الوحوش التي لا تعرف الرحمة أنتم؟
ـ أنذال فجرة ؟!!
كلمات حرّى اشتعلت في خاطرها وودت لو تقذف بها في وجوههم الكالحة ..
تسللت الدموع البريئة لتجلل المأساة التي رسمت على ملامح وجهها البائس...
تبكي بألم وحرقة .. تحاول إخفاء دموعها بكلتا يديها المكبلتين بالأغلال ..
مشت تتهادى بين كتيبة من المجندات اللاتي أمسكن بذراعيها وجعلن يدفعنها نحو قفص الاتهام في قاعة المحكمة العسكرية
البغيضة التابعة للمعتقل ..
سارت بينهن بخطى مثقلة تتعثر بسبب الأغلال التي اعتصرت معصميها الضعيفين ..
حطم صوت السلاسل سكون القاعة وبهوها الشيطاني...
نظرت بعينين ذابلتين حولها..
رفعت رأسها شامخة بالرغم من ضعفها وشعورها بالدوار..
وقفت بين أربع مجندات غليظات أحطن بها كالسوار في المعصم..
نظرت إلى الجنود المدججين الذين اصطفوا يميناً وشمالاً يحدقون بها وقد تملكتهم الدهشة..
شعرت بأنها أمام أشباه رجال لايزنون جناح بعوضة ..
تمتمت بصوت خافت منبعث من قلب مكسور..
ـ صبراً ياقتلة .. يومكم قادم لامفر منه..
جلست في قفص الاتهام تنتظر ما ستسفر عنه هذه المحاكمة الهزلية..
هزت رأسها وهي تفكر بهذه المحاكمة..
ـ أي محكمة هذه .. بل أي حكم يمكن أن ينطق به هؤلاء الظلمة.. ماذا أنتظر غير الخيبة والظلم والهوان..
يسود صمت خانق بانتظار ولوج قضاة المحكمة ..
يشق الصمت زعيق بوابة خشبية كبيرة تفتح على مصراعيها..
يدخل ثلاثة من القضاة العسكريين حولهم بعض الجنود .. يعتلون المنصة ..
ينظر بعضهم إلى بعض .. يبتسمون ابتسامات ساخرة..
يتلفت أحدهم نحوها.. ينزع نظارته عن عينيه الجاحظتين ..
ـ هيه.. سعاد حلمي غزال.. هذا هو اسمك أليس كذلك؟

تنظر إليه نظرة احتقار وتظل صامتة..!!
يهز رأسه..
ـ حسناً .. لقد هاجمت إحدى المجندات بالقرب من مستوطنة «شافي شمرون» أثناء وقوفها على الشارع الرئيسي، وحاولت
طعنها بالسكين.. أليس كذلك؟(بسخرية مبطنة)
تعرض عنه وتغض طرفها استهانة بما يقول..
يظهر الضيق والحرج .. يصرخ..
ـ أجيبي على السؤال..!!
تلتفت نحوه وعيناها تقذفان بالشرر..
ـ نعم .. فعلت ذلك.. لكنني أخطأت ..
يبتسم القاضي..
ـ إذن تعترفين بخطئك..
ـ نعم .. أخطأت إذ لم أقتلها..
ينظر إليها القاضي بدهشة.. يشعر بالحرج..
ـ ماذا؟ .. كنت تريدين قتلها؟.. ولماذا أيتها المتطرفة؟
تنهض واقفة وقد تملكها الغضب ... تصرخ في وجهه..
ـ غريب أن أقتلها أليس كذلك؟!! .. أما أنتم فمن حقكم قتل الناس..!!
ـ أجيبي عن سؤالي باختصار.. لماذا حاولت قتلها؟
ـ قبل أن أطعنها بيوم واحد، هاجم جنودك قريتنا، خربوا ودمروا وعاثوا فيها فساداً.. هدموا منازل عدة.. كان من بينها منزلنا..
قتلوا أخي الأصغر.. كان برفقتهم جماعة من المستوطنين وكانت هذه المرأة التي حاولت قتلها من بينهم.. فعلت أشياء كثيرة.. أهانت
أمي وأهانتني..
يتململ بحنق... يضرب بمطرقته على الطاولة..
ـ كفى .. كفى..
تصمت وتنتظر..
يتمتم بغيظ..
ـ أي فتاة تكون هذه .. يالها من جرأة..
يقلب الأوراق .. يهمس في أذن نائبه..
يتنهد بضيق ..
ـ حسناً .. رفعت الجلسة..
ينهض ويولي هو ومن معه..
يسود القاعة صمت رهيب.. تشرق عينا سعاد.. ترفع رأسها وتنظر حولها.. عيونهم جاحظة تنظر إليها بدهشة..
ـ ويحهم .. لماذا ينظرون إليّ هكذا.. ماذا يريدون مني؟!!
تشعر بدهشتهم منها.. تستعيد ما قالته للقاضي.. تحس بأنها ألقمته حجراً..
يقطع حبل تفكيرها صوت زعيق الباب الخشبي وهو يفتح..
يدخل القضاة في عنجهية عسكرية ..
يجلسون خلف المنصة .. يتهامسون. تظهر ابتسامات ساخرة على وجوههم وهم يرمقون سعاد..
يقلب أحدهم أوراقاً أمامه.. يرتدي نظارته..
يضرب بمطرقته على الطاولة..
ينصت الجميع..
تنهض سعاد لسماع الحكم..

ـ بناء على ما تقدم.. ونظراً لاعتراف المتهمة بجريمتها بالاعتداء بالطعن على المجندة ... فقد حكمت المحكمة على المتهمة سعاد
حلمي غزال بالسجن لمدة ست سنوات ونصف مع التنفيذ .. رفعت الجلسة..
تصرخ سعاد بأعلى صوتها..
ـ الله أكبر .. الله أكبر..
تخرج مصحفاً من جيبها.. ترفعه عالياً.. تهتف بصوت مرتفع..
ـ الحكم لله، والبقاء لله، وسوف ينتقم الله منكم يا أوغاد.. نعم سينتقم الله منكم يا أوغاد.. يقف القضاة في ذهول.. يحدث لغط
في القاعة..
تلتفت نحوهم وقد بدا عليها الغضب..
ـ أما أنتم.. أما أنتم ياجبناء فلكم هذه.. وتبصق في وجوههم بقوة..
تصرخ في وجه الجنود حولها....
ـ جبناء أنذال.. لا تجرؤون حتى على مواجهة النساء.. سيأتي اليوم الذي نفنيكم فيه بإذن الله . سوف ترون أيها اليهود..
تمسك بها المجندات.. تحاول إحداهن إسكاتها بتكميم فمها .. تصرخ..
ـ سنوات معدودة وسأعود .. سأعود يا قتلة.. سأعود للطعن من جديد.. لن نخافكم بعد اليوم ..
ترفع رأسها عالياً وتشمخ بروح الإباء..

تلهج بالدعاء..
ـ إلى الله أشكو.. إليه وحده دون سواه.. يارب.. أنت ولي المستضعفين وناصرهم.. أنت ملاذنا يا الله..
(هذه هي قصة الفتاة الفلسطينية المسلمة «سعاد حلمي عزال» (17 عاما) من قرية سالم قرب نابلس، اعتقلت بتاريخ
13/12/1998م وعمرها (15عاماً) آنذاك، وذلك بتهمة محاولة طعن إحدى اليهوديات المستوطنات، وعذبت عذاباً شديداً، ثم حُكم
عليها بالسجن ست سنوات ونصف).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply