بسم الله الرحمن الرحيم
قصةٌ تفوح ألماً .. وتعتصر أسىً .. وتَقطُر حسرةً وكمداً ..
أحداثٌ تُكسِّر القلب .. إن كان به مثقال ذرة من إيمان ..
وتُحطِّم الفؤاد الذي نشأ على الطهر والعفاف ..
وقائعُ ..يشيبُ لها رأس الوليد .. وتدور منها عين الحليم ..
لا أُطيل ..
فمسلسل المأساة بدأ من غرفة الولادة في إحدى المستشفيات ..
صرخات الممرضات .. والقابلات .. يبشرون الأم بالمولود الجديد ..
يصل الخبر إلى والده .. فيتهلل وجهه .. وتنفتِحُ أَساريرُه .. ويهذي بكلمات لا يدرك معناها من شدة الفرح ..
وحُقَّ له ذلك .. لأنه حُرِم نعمة الأولاد لسنوات وسنوات ..
وصبر وصابر .. إلى أن جاء يوم الفرج .. فنسي كل الآلام والجراحات .. ونسي كل المتاعب والمآسي ..
ولا تَسَلني لماذا .. فمن يُرزق بمولودٍ, بعد انتظار طويل .. يَعجزُ عن إظهار فرحته .. أو حتى عن التعبير عن مشاعره ..
طلبَ صاحبنا من الطبيب أن يُمكِّنه من رؤيةِ ابنه الذي أبصر النور قبل لحظات ..
دخلَ إلى الغرفة المخصصةِ لحديثي الولادة ..
قادته الممرضةُ إلى ابنه .. وقالت : انظر إليه ما أجمله ..
لكن الأب قال لها .. لعلكِ أخطأتِ الاسم .. فإنه ليس ابني .. !!
أصرّت الممرضة على أنه ليس سوى ابنه .. والأوراق الرسميةُ تُثبتُ ذلك .. والبصمات .. والتحليلات ..
عندها تسمّر الأب في مكانه .. واحمرّ وجهه .. وثارت أعصابه .. فلم يتمالك نفسه ..
وصرخ بصوتٍ, عالٍ, .. مُستحيل .. مُستحيل .. إنه ليس ابني .. لا يُمكن أن يَحدُث هذا ..
ذهب مُسرعاً إلى زوجته في غرفة العناية ..وصرخ في وجهها وقال ..أيتها الخائنة .. أنت طالق .. ثم طالق .. ثم طالق ..
وخرج هائماً على وجهه ..
والمسكينة لا تعلم ما يحدث من حولها ..
نادت إحدى الممرضات .. وطلبت رؤية وليدها .. فلمّا رأته .. تغيّر لون وجهها .. وارتبَكت .. وتملّكتها قشعريرة عجيبة .. ولم تستطع من هول الصدمة أن تتفوّه بكلمة ..
اِستُدعِي والدها من قِبلِ إدارة المستشفى .. وأُدخِل على ابنته .. فلم تستطع مُحادثته ..
طلبَ مُقابلة الطبيب لِيُخبره ما القصة ..
فجاء الطبيب حاملاً الطفل بين يديه .. وقال هذا هو حفيدك ..
لم يُصدق الجد المسكين .. وحَسِب أنه أخطأ العنوان .. إلا أن الطبيب أكّد له الخبر ..
وقف الجد ساعتها في مكانه .. وانهارت قواه .. ولم يستطع تحمّل الموقف .. فحملوه إلى المنزل ..
والسر في ذلك كلّه .. هو أن المولود كان ذا بشرة بيضاء صافية .. بعكس الأم التي كانت تميل إلى السمرة الشديدة ..
خرجت الأم من المستشفى إلى بيت زوجها .. حاملةً رضيعها بين يديها ..
وهي لا تكاد تُصدِّق ما يجري حولها ..
إلا أنها أدركت شيئاً واحداً ..
أدركت بأنها ستُواجه بلايا كثيرة .. وامتحاناتٍ, صعبة ..
فتحت باب دارها ..
فتلقَّاها زوجها بالسباب والشتائم .. واتهمها في عرضها .. وفي شرفها .. وفي عفَّتها ..
كثُر كلام الناس حولها .. وازدادت سِهامُ شياطين الإنس تصويباً عليها ..
لقد اتهموها بأغلى شيء تملكه .. وأعزٌّ أمر تحتفظ به ..
لقد اتهموها بذلك كله .. مع أنها منه براء ..
أما هي فقد كانت تُرضع صغيرها بثديها .. ودموعها تنسكب من عينيها ..
لقد كانت تبكي بكاءً ما عُرف عن أحد من قبلها ..
بكاءٌ يخرجُ من أصل القلب .. ومن حشاشة الروح ..
يخرجُ ومعه ألف مأساة ومأساة .. ويصحبه ألف تنهيدةٍ, وتنهيدة ..
لقد كانت تبكي .. لأنها هي العفيفة .. وهي الطاهرة .. وهي الشريفة ..
وهي التي ما قارفت السوء في حياتها قط .. وما عرفت الخطيئة إليها سبيلاً ..
قررت المسكينة بأن تذهب إلى بيت والدها هرباً من ذلك الجحيم ..
فقابلها والدها .. وقال يا بُنيّتي .. لقد كثُر الحديثُ حولك .. وكثُرت الأنباء عنكِ .. فصارحيني .. واتقي الله .. فإن كنتِ قارفتِ شيئاً مما يقوله الناس .. فتوبي إلى الله .. فإن الله يقبل التوبة عن عباده .. ويعفو عن السيئات ..
فلمّا سمعت هذا الكلام من أبيها .. خرّت مغشيّةً عليها ألماً وحسرة ..
لقد مرّت المسكينة بلحظاتٍ, لا يعلمُ شِدّتها إلا الله .. ولا يعلم مِقدار قسوتها إلا الله ..
لقد أُصيبت بمصيبةٍ, لو نزلت بالجبال لاستحالت قاعاً صفصفاً .. فلا ترى فيها عوَجاً ولا أمتا ..
ومرّت الأيام ..
لكنّ أيامها ولياليها كانت تلسعُها لسعاً .. وتلهبها بسياط العار والتهمة الملفّقة بها زوراً وبُهتاناً ..
وتَكوِيها في كل ذرّة من ذرات جِسمها .. وفي كل موضع من مواضع روحها ..
لقد حاولت إقناع زوجها بأنها لم تخُنه بالغيب .. وأنه ربما نَزَعه عِرق .. فإن العِرق دسّاس .. إلا أن ذلك ما كان يزيده إلا نفوراً ..
لقد كانت تُقسم له بأنها براءٌ من كل ما قيل فيها .. إلا أنها كانت تنظر إلى رضيعها الأبيض .. وهي لا تدري كيف جاء إليها .. وقد تشُكٌّ في نفسها أحياناً .. فكل الناس من حولها يرمونها بنظرات الشك والريبة ..
وبعد ليالٍ, معدودة ..
بعد ليالٍ, مليئةٍ, بالآلام والآلام .. ومشحونة بالعذابات والعذابات .. انفردت عن الناس وبقيت حبيسة محرابها ..تدعوا الله وتتضرع بين يديه بأن يُظهر براءتها ..
وكانت كثيراً ما تردد هذه الآية : ( إنما أشكو بثي وحزني إلى الله ) .. وهي تتمنى أنها ما كانت ولا وُجِدت في هذي الحياة .. وهي دوماً تتمثل قول العذراء البتول ( يا ليتني مت قبل هذا وكنت نسياً منسياً )
وبعد طول معاناة .. ساءت حالتها .. وضمُرَ جِسمها .. ثم ماتت ..
نعم .. لقد ماتت قهراً وعذاباً ..
لقد ماتت لوعة وأسىً .. وكمداً وحسرة .. فرحمها الله رحمةً واسعة .. إذ أنها ماتت .. ولم تَقرّ عينها بظهور براءتها ..
ومضت السنون والسنون ..
وكبر الطفل .. وأصبح يلهو مع الصبيان بكل براءة .. وهو لا يعلم عن والدته شيئاً .. ولا عن سرِّ موتها ..
وفي إحدى الأيام .. دخلت قريتهم بائعةٌ متجوّلة .. تبيع بعض الملابس والألعاب ..
فسمعت بالقصة .. وأُخبرت بالمأساة ..
فوقفت ساعةً تسترجع شريط الذكريات .. إذ أنها عجوز في آخر عمرها ..
ثم طلبت مقابلة زوج تلك المرأة التي ماتت .. وقالت له .. إن لدَيّ الخبر اليقين .. فإني أتذكر أني مررتُ بقرية كذا وكذا فأُخبرتُ بأن لديهم مأساةً كمأساتكم .. ومُلخَّصها .. أن إحدى الأسر وُلِد لهم مولودٌ بشرته سمراءُ شديدة .. مع أن أمّه بيضاء البشرة .. وقد اتهموها في عرضها .. وطعنوها في شرفها .. فهي تعيش في هذه الدنيا بجسدها فقط .. أما قلبها فقد هرب منها إلى مقبرة الأموات ..
وبالفعل .. سار وفدٌ من تلك القرية تِلقاءَ القرية الأخرى ..
واحتكموا إلى الطبيب الشرعيِّ في إحدى المستشفيات .. وبِمطابقة البصمات .. والتأكد من الجينات والتحليلات .. تبّن أنه وقع خَلطٌ بينهما .. بسببِ خطأ بشَرِيّ في المستشفى الذي وُلِدا فيه ..
وبهذا ظهرت براءة المرأتين ..
ولكن بعد فوات الأوان .. فالمرأة الأولى لم تَعِش إلى هذه اللحظة لِتسعدَ وتفرح ببراءتها .. كما شقيت من كلام الناس في عرضها ..
لقد ماتت .. ولم تشهد ذلك اليوم ..
فرحمها الله رحمةً واسعة .. وعوّضها عمّا قاسته نعيماً في روضات الجنّات .. وأظهر براءتها في موقف الحشر أمام الخلائق إنه على كل شيء قدير ..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد