بسم الله الرحمن الرحيم
تطرق مسامعنا كثيرًا كلمةُ \"الإبداع\" وأصبح كثيرون من أرباب الأعمال ومسئولي الإدارات يتداولونها في الحديث عن منشآتهم ومؤسساتهم، ويحرصون على تبني بعض المواد التدريبية التي تعالج هذا الموضوع، ومن واقع تجربة ميدانية و دراسة علمية حول هذا الموضوع يتضح أن التعامل مع موضوع الإبداع في أغلب الممارسات هو تعامل سطحي، لا يتعدى إعجابًا برونق الكلمة ودلالاتها اللفظية، قد يتبعه حضور دورة أو دورتين أغلب ما يطمح فيها تنظير لفكرة الإبداع وكيف يصبح الفرد مبدعًا والتعامل مع بعض أدوات التفكير الإبداعية وحسب.
وهذا الحد من التعامل مع قضية \"الإبداع\" وإن كان بداية جيدة - مقارنة بمن لا يهتمون به أصلا- إلا أنه يظل عملاً وممارسة سطحية للموضوع لا يتحقق منها للفرد ولا لدوائر الأعمال الحكومية أو الأهلية الثمرة المرجوة و العملية من الموضوع.
الإبداع اليوم إبداع جماعي:
إن التغييرات شديدة السرعة في عالم الاقتصاد اليوم ترفع لنا شعاراً جديداً في مفهوم الإبداع وهو \"الإبداع الجماعي\". لم تعد القيادة والتأثير حالياً للشخص المبدع \"الفرد\" بل للمجموعة أو \"الفريق المبدع\" حتى وإن كان الرابط بينهم في بعض الأحيان هو رابط إلكتروني فحسب، ولكن التكامل بين أفراد الفريق الواحد أوجد إبداعًا جديداً يفوق الإبداعات الفردية نوعًا و كمًّا. لقد جنت الشركات الأخطبوطية عابرة القارات من جهود وعقول كثير من أبنائها من خلال ربطهم الإلكتروني عبر أرجاء الدنيا مما يسهل التعامل مع كثير من المصادر المعلوماتية المملوكة لمثل هذه الشركات بشكل أسرع وفي الوقت المناسب.
لنتابع إن شئنا الكم الهائل والمتتابع من الابتكارات الطبية اليومية حتى أصبحت شركات تصنيع الدواء والأبحاث الطبية من أكثر المؤسسات ثراءً وأشدها صعوداً في سوق الأسهم، وهذا لا يقلل من أهمية المواهب الفرديةº ولكن التوظيف الأمثل لهذه المواهب وتمكينها من استثمار قدراتها هو عملية متكاملة لها ضوابط وآليات تحتاج إلى تكاليف باهظة، ولعل الأمثلة الرياضية في تحطيم الأرقام القياسية الفردية قد يكون مثلاً سائقاً في هذا الموضع.
بيئة الإبداع:
إن ثمرة الإبداع لا يمكن أن تنمو إلا في بيئة مناسبة لها من الخصائص و المميزات ما يجعلها المكان الوحيد و المناسب لإبراز الإبداعات الفردية ومن ثمً تسويقها و تهيئتها للمنافسة في الأسواق المحلية والعالمية، ولكن واقع الحال في بيئات العمل يحدُ كثيراً من انطلاق الملكات الفردية فضلاً عن دعمها أو توظيفها.
وبين أيدينا محاولة متواضعة لوضع صورة متكاملة للبيئة المناسبة لغرس بذرة الإبداع، ومن ثم جني ثمرتها من خلال ربط رمزي للفكرة مع أشجار النخيل. فالعمل في تغيير بيئة المنظمات يعد من أصعب الأمور وأكثرها حاجة لعاملي الوقت والتدرج فكان القياس على شجرة \"النخلة\" الأقرب لشرح الفكرة و بيان الهدف، حيث تعد النخلة أكثر الأشجار طلبًا للجهد والوقت من صاحبها.
ومن خلال هذا الربط بين عملية استنبات النخيل وعملية استنبات الإبداع في مؤسساتنا الأهلية و الخاصةº نخلص إلى مجموعة مقومات أساسية لابد من الالتفات لها إن أردنا التوظيف الأمثل للملكات الفردية و توجيهها لخدمة الأهداف العليا للمؤسسات فنجني رطبًا لذيذًا تسر به عيون المالكين والمساهمين على السواء.
أولاً: التربة المناسبة:
وأقصد بهذا الأرضية الأساسية لبنية المنظمة، فكما أنه لا حياة مستقرة للنخلة بدون أرض خصبة تساعدها على النموº فإنه لا يمكن لشجرة الإبداع أن تنمو ما لم تتوافر لها منظومة عمل متكاملة على رأسها الرؤية الواضحة والمشتركة، والتي تعبر لا عن رغبة الإدارة العليا فقطº بل تشرك القيادة موظفيها في صياغة هذه الرؤية والحماس لتحقيقها. ويتبع هذا و يسنده توافر أنظمة عمل شاملة وعمليات مرنة وخطوات تنفيذ سهلة وواضحة.
ثانيا: الفسيلة الجيدة أو البذرة الصالحة:
ولعل فيه إشارة واضحة إلى آلية اختيار العاملين و الموظفين في دوائر الأعمال المختلفة. لا يمكن بأية حال من الأحوال أن تتطور مؤسساتنا أو تنافس غيرها في منظومة الأسواق المفتوحة إذا لم يتم التدقيق في نوعية الكوادر التي تستقطب إلى المنظمات، كون الركيزة الأساسية لأي منظومة عمل هي الإنسان، فإذا لم يكن مؤهلاً للعمل والمنافسة والحفاظ على المكتسبات، فإن التعثر سيكون النتيجة المتوقعة ما لم يتدارك ذلك بخطة تطوير جادة وفعالة، وهو أمر يكلف الكثير لكن لا غنى عنه و لا بديل له. وهناك وصفان أساسان في اختيار الموظف ذي الجودة العالية:
1- القدرات العملية: والتي تعكس المهارات والسلوكيات التي يمكن توظيفها لخدمة أهداف الشركة أو المؤسسة بشكل مباشر.
2- الأخلاق: والتي تمثل القيم والمبادئ التي يعيش بها ومن أجلها المسلم بحيث تشكل حصانة من التهاون أو التفريط في مسؤوليات الموظف أو ممتلكات المؤسسة.
ثالثاً: السقاية المستمرة:
الماء عصب الحياة، قال - تعالى - (وجعلنا من الماء كل شيء حي) فلا حياة بغير ماء، وسقيا شجرة الإبداع هي الثقة التي تنساب في النفوس انسياب الماء في عروق النخلة وجذورها. فالثقة مثل الماء طاقة تنبعث وحيوية تتدفق، الباذل لها وهي القيادة يعوزها مستوى معين من الشجاعة نظير المخاطرة المحسوبة التي تتحملها و تتوقعها، وهي حيوية تتدفق من الموظفين الجديرين بها جراء نفسية التمكين التي يعيشونها فتدفعهم لبذل الوسع بكل سرور وتحقيق النتائج بكل إصرار.
رابعاً: التغذية والتقوية:
من طبيعة حياة النبات تعرضه المستمر للشوائب والآفات، فلا يصح إهماله وتركه يصارع الآفات من غير علاج ولا وقاية، وكذلك المؤسسات لا تلبث أن يعكر صفو سيرها حوادث الأيام، فالمنظمات تشيخ وتهرم فتحتاج إلى نوع خاص من المعالجة والتقوية، وقد تضخ فيها الدماء الشابة فتعتريها مخاطر المراهقة، فيجب في حقها وقاية من آفات أخرى، وهكذا تدور عجلة التغيير ولا يقتنص ميزة كل عهد إلا القياديون المهرة، و أما غيرهم فيخبط خبط عشواء تداوي حينًا وتقتل أحيانًا كثيرة.
وشجرة الإبداع غذاؤها التدريب والتعليم ووقايتها في التشجيع والتكريم، وهما عنصران لا غنى عنهما في حياة المؤسسات والمنظمات، لأن امتناعهما يعني ضمور المواهب و نضوب المشاعر، فالمواهب إذا لم تغذَ بالجديد النافع والخبرة المجربة تركن إلى القديم من الوسائل وتعجز عن مجاراة المنافسين. كما أن التشجيع والتكريم يلهم مشاعر الموظفين فيكون ولاؤهم للمؤسسة أقوى وحرصهم على المبادرة أشد وهذا لاشك ميزة يكاد يتفق على تواجدها في المنظمات المتفوقة دائماً.
خامساً: البيئة النقية:
قل لي أي بيئة تعيش مؤسستك، أقل لك جودة إنتاجها.
لا يتوقع رطباً جنياً من نخلة لا تتنفس إلا بصعوبة وإذا تنفست كان كدراً وضيقاً على صدرها، وكذلك الإبداع لا ينمو في بيئة ينعدم عندها احترام الآراء وتغيب فيها روح الفريق ولا تسود فيها قيم ومبادئ وآداب المسلم، وهي من الأهمية بمكان يجدر الوقوف عندها كثيراً، وتلمس كل الوسائل لتهيئتها لكثرة التفريط فيها من جهة، ولأثرها البالغ في تميز المؤسسات والمنظمات. فإذا فتشنا في تاريخ الغادرين لمؤسساتهم وأماكن أعمالهمº لوجدنا أن الغالبية العظمى تعزو ذلك إلى بيئة العمل السيئة. وأذكر أنني في إحدى الرحلات سألت أحد العاملين بجهة خيرية ذا مؤهلات عالية عن سبب تمسكه بهذا العمل رغم أن مثله يستطيع أن يجد عروضا أفضل بكل يسر و سهولة فكان السبب هو أن استمتاعه و تعلقه ببيئة العمل في المؤسسة أكبر حافزاً له على البقاء ومواصلة العمل.
سادساً: الضياء و الحرارة:
هل شاهدتم نخلة تنمو في غير ضياء؟
هل رأيتم رطباً يثمر في شتاء قارس؟ أو جو بارد؟
الضياء والحرارة من نعم الله على بني الإنسان، بها يسهل معاشهم ومنها سبيل دفئهم و غذائهم، ليس لهم بهما بديل ولا عنهما سبيل.
القدوة والقيادة هما الضياء والحرارة لشجرة الإبداع، القدوة كالضياء يسير في ركبها المقتدون على خطى قائد هم اقتناعًا منهم بعلمه وحنكته الإدارية، فتقل بذلك الاجتهادات الهوائية والانتقادات الظنية. والقيادة كالشمس ترسل دفئها فتتسارع علمية البناء داخل النخلة فتينع الثمرة و يحسن الحصاد.
والقيادة هي الأمر الوحيد الذي لا يمكن تفويضه فلا حياة لمنظمة أو مؤسسة بغير قيادة كما أنه لا حياة لنخلة بدون ضياء أو حرارة.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد