هجر ذلك الصخب.. هجر فوضى العبارات التي تمارسها العائلة بشغف وإدمان.. وانزوى في إحدى الزوايا من غرفته.. أطفأ النور وجلس يتأمل فوضويّته الساكنة.. يتأمل الأشياء المبعثرة من حوله.. ركام من الأوراق.. وأكوام من الأشياء الصغيرة.. لعب وكتب وأجهزة.. تساءل في داخله كيف لم تستفزّه الفوضى يوماً لأن يدخل النظام والترتيب في قاموسه الحياتي؟!
تخيل كيف يمكن أن تصبح الغرفة لو رتبت الأوراق.. وجمعت الألعاب في صندوق كبير.. ماذا سيخسر لو نسق الأجهزة.. وتخلص من الأشياء التي لا يستخدمها؟!
تساؤلات عدة كانت تتناسل في دماغه.. ولا يجد وعداً يمكن أن يقطعه لها..
أغمض عينيه ثم عاد ففتحهما.. كثيراً ما يتخذ من العتمة ساحة يعيش في أجوائها حياة تختلف عن حياة النور.. ينشد فيها الراحة والسكينة.. يستمتع بالصمت والسكون يرقصان في داخل روحه رقصة النشوة..
عندها حقاً.. ربما يستطيع اقتراف دمعة أو دمعتين..
أزمته أنه لا يعرف البكاء أمام أحد.. ولم يفعلها أبداً طول حياته.. سيتحول شكله إن فعلها إلى طفل صغير ضاع في زحمة من الناس.. هذا ما يعتقده.. البكاء عيب.. فكيف للرجال.. ربما لم يصبح رجلاً بعد.. لكنه سيكون.. فعليه أن يتعود حبس الدموع.. ابتلاعها.. إخفائها في طيات حنجرته..
هكذا علمته أمه مذ كان صغيراً.. بل طفلاً ما زال يحبو.. كلما أراد فتح إذاعته.. كانت تخرسه واضعة سبابتها على شفتين مزمومتين.. \"هس\" تكررها.. وتقول بحزم وشدة يتطايران من نظراتها المرهبة \"ابتلعها\" \"ابتلعها\"..
ماذا سيبتلع؟ لا يعرف.. ولكن هذا التفكير كان جديراً بأن ينسيه سبب بكائه.. فيتوقف ليفكر في ذلك الشيء الذي عليه أن يبتلعه..
أيقن بعد سنين قليلة أن الدموع هي تلك الحلوى التي لا يجب أن يمضغها.. وإنما عليه أن يُزلقها إلى جوفه مباشرة دون مضغ أو تلكّؤ..
بعد سنين أخرى.. اكتشف أنه فقد القدرة على إسقاط الدموع.. واكتشف أيضاًَ أن هناك شيئاً يسكن حلقه ويشعره بالاختناق..
هذه هي القاعدة التي رسّختها والدته في رأسه.. البكاء عيب.. والدموع حلوى لا تُمضغ.. لكنه الآن بحاجة لأن يكسرها.. يهمّشها.. يلقي بها إلى أقرب حاوية..
لذلك اختار زاوية الغرفة.. كان لا بد أن يتخذ قرار إسقاط الدموع.. لا بد وأن يستمتع بطقوس ذرفها على وجنتيه.. لا بد!!
دفن رأسه في كفيه وبدأ يعصر من العنبتين الجافتين السائل المالح.. كيف لها أن تسقط؟! هل يفشل في البكاء الآن أيضاًَ؟!
بدأ يسترجع الأسباب القوية التي يمكن أن تبكيه.. لكن يبدو أن كل الأسباب سخيفة إلى درجة أن الدموع تأبى أن تسقط لأجلها.. لكنه يجب أن يبكي.. يجب أن يتقيّأ ضيقه!!
ها هي الدموع بدأت تغرورق في عينيه.. فتحهما ليحملق في العتمة ويتأمل ما حوله من خلف زجاج الدموع.. غشاء شفاف متموّج غطّى حدقته، زادت الدموع في عينيه حتى همت لتسقي من خديه أرضاً عطشى جرداء، مسحها بأصابعه.. وعاد يحاول اقتراف دمعة أخرى تتكرر معها تلك الصورة..
2
كان الصخب خارج غرفته يهز الجدران.. كان يجهل الأسباب.. ولا يعرف تماماً هل هو جدال أم نقاش أم اختلاف.. أو حتى اتفاق..
أم أنها حمى السخط التي تعصف بجسد البيت فتحيله محموماً بعباراتهم الهوجاء..
كان يأمل أن تهدأ العاصفة قليلاً ليستطيع جمع الأوراق التي سقطت بفعل تلك الريح.
3
أخذه النوم من يده إلى دوّامته العجيبة.. كان متكوماً في الزاوية كبقايا إنسان..
عندما استيقظ صباحاً.. نهض كالكسيح يترنح يمنة ويسرة فاقد القدرة على التوازن.. الألم افترس أجزاء جسده فأعاق حركته..
خرج من غرفته يبحث عنهم، كان المنزل خاوياً إلا منه..
4
كل شيء نظيف ومرتّب تماماً الآن.. إلا غرفته..
حرص أن يعيد كل شيء كما كان قبل رحيلهم؟!
لم يتساءل إلى أين رحلوا.. لكنه كان واثقاً أنهم سيعودون.. ربما لأنهم سيتذكرون أنه ليس معهم..
نعم مؤكد سيعودون..
فهو بلا شك مهم..
5
بعد أيام معدودة..اضطرّ لأن يختبئ في الزاوية نفسها..ليعود فيمارس طقس إسقاط الدموع..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد