قامت الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، و رسخت دعائم و أركان السيادة لشرع الله عز و جل، و تمثّل المؤمنون الأوائل قول الله تعالى\" و اذكروا إذ أنتم مستضعفون في الأرض تخافون أن يتخطفكم الناس فآواكم و أيدكم بنصره و رزقكم من الطيبات لعلكم تشكرون\" تمثلوه واقعاً و حقيقة لا مراء فيها، و بدأ النبي صلى الله عليه و سلم يومئ لأصحابه بإشارات الوداع، و لكن أي وداع؟ إنه وداع المربي المعلم الشفوق بأمته الحريص على ثبات أصحابه إنه وداع من لم تطمئن نفسه و يسكن قلبه حتى كشف الستار عن حجرته لينظر إلى الصديق رضي الله عنه يؤم جموع الصحابة في الصلاة فتقر عينه ، فكيف كانت إيماءات الوداع و كيف كانت وصية قائد الأمة بعد أن انقلب الضعف تمكيناً و السر بالعقيدة جهراً، و دين الله تعالى حكماً فوق أعناق الكفر و رؤوس الضلال؟ فلنتأمل!
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه و سلم خرج يوماً فصلى على أهل أُحد صلاته على الميت، ثم انصرف إلى المنبر فقال: \" إني فرطكم و أنا شهيد عليكم و إني والله لأنظر إلى حوضي الآن و إني أُعطيت مفاتيح خزائن الأرض _ أو مفاتيح الأرض_ و إني و الله ما أخاف عليكم أن تشركوا بعدي، و لكن أخاف عليكم أن تنافسوا فيها \"
نعم، إن طبيعة النفس البشرية قد تميل إلى النسيان في غمرة الفرح و في ساعة اللذة و في نشوة الانتصار، و لربما كان بعض المسلمين في أواخر عهد النبي صلى الله عليه و سلم على غير علم بأولئك الذين سددوا القسط الوافر من ثمن الظهور و التمكين، فكان لابد للمعلم القائد من تذكير و تنوير º تذكير أولئك الذين قد ينسون ما قدمه إخوانهم في بدايات الدعوة و الدولة و تنوير أولئك الذين دخلوا الإسلام و للإسلام دولة، و لذا انصرف بأبي هو و أمي صلى الله عليه و سلم ليقف على شهداء أُحد و يصلي عليهم، ليقدم لهم عربون الوفاء و الحب و التقدير ، و كأني به صلى الله عليه و سلم يقول لكل مسلم في أرضٍ, و زمانٍ,، هؤلاء هم الرجال، هؤلاء الذين انقلبت غيبيات الدين لديهم حقائق ماثلة لأعيانهم و شخوصهم فلم يكادوا يروا غيرها فإذا هم يشتمون ريح الجنة و يتقلبون في أنهارها و يتفيؤون في ظلالها في حين لا يرى غيرهم إلا غبار النقع و حر الرمضاء و أثر الدمار و القتل و التشريد ، لقد رأى أولئك الجنة كما رأى النبي صلى الله عليه و سلم الحوض أمامه و هو يخاطب الصحابة على منبرهº حقيقة لا يلوث نقاءها شك قلب مريض أو لهو نفس هاوية . …
لقد كانوا سبعين شهيداً، و لكنهم كانوا أكثر من ذلك بكثير، لقد كانوا حقيقة هذا الدين و كانوا حقيقة النموذج الإيماني و كانوا حقيقة التلمذة في مدرسة النبي صلى الله عليه و سلم، نحن مدينون إذاً _ بعد الله عز و جل _ إلى هؤلاء، و نحن ممتنون لهم غاية الامتنان ، و إننا لنقف اليوم بعد مئات السنين لنصلي و ندعو لشهداء أُحد كما فعل النبي صلى الله عليه و سلم، و لكن لابد لهذه الوقفة من آية صدق و علامة إخلاص، و هذا ما يجب أن نقف عليه اليوم لمراجعة أنفسنا، و لقد خط لنا بأبي هو و أمي صلى الله عليه و سلم معالم الطريق في كلماته على المنبر آنذاك، خط لنا في ذلك الموقف معالم المنهج العقدي بنفس القوة و الوضوح الذي خط به معالم المنهج العملي، و إذا كان ثمن الثبات على المنهج أشلاء و دماء فلتكن السلعة مستحقة لذلك، و لتجلُ الراية و ليتضح الهدف، أهو لعاعة الدنيا أم صدق التجرد لله عز وجل نية و للنبي صلى الله عليه و سلم متابعةً، ثم لنتساءل و نحن نعاني مواقف الخوف و التشريد اليوم عن مدى رسوخ تلك الحقائق الإيمانية في قلوبنا و عن مدى استعدادنا لدفع الثمن ،كل الثمن ..
أقولها مرة أخرى، نحن نقف اليوم و نتشبث بديننا و تلتهب بذلك أطرافنا و تغلي صدورنا و ربما تشق قبورنا، و لكننا لا يمكن أن ندرك قيمة ما في أيدينا غاية الإدراك إلا إذا قدمنا عربون الوفاء و التقدير لمن سنوا لنا منهج التضحية و الفداء، و لئن كان شهداء بدر و أُحد و الأحزاب يدخلون في هذه الزمرة أصالةً و ابتداءً، فإننا نُكنّ نفس المحبة و الوفاء و التقدير لكل من سار على نهجهم تبعاً، فلا يمكن لأحدنا أن ينتحل أنسابه إلى الصدر الأول من الشهداء و هو يتبرأ من سار على نهجهم، و لا يمكن لأحدنا أن يزعم تشبثه بهذا الدين و هو يتنصل ممن لا يزالون يسددون أقساطه. و لهذا لابد لنا و نحن نراجع أنفسنا و مواقفنا من أن نعلن بكل قوة و اعتزاز و شموخ أننا نحب هؤلاء , نعم إني أحبكم و أحب من يحبكم و إني لأبغض من تبرأ منكم و أبغض من يبخسكم حقكم، نعم أحب شهداء أُحد و أحب كل من سار على دربهم ولا أبالي، و إني أدعو كل إخواني و أخواتي إلى أن يرفعوا أوسمة المجد و العزة و الفخار على جباههم و صدورهم بالانكباب على التنافس فيمن يكون ضمن الجيل القادم و الذي يليه، فسفينة الإسلام لابد لها كي تسير من نهرٍ, أحمرٍ, تمخر عبابه ، ولا بد لمن أحب هؤلاء من أن يأخذ بأسباب السير على طريقهم، فالجنة حق و الشهادة حق و رسول الله صلى الله عليه و سلم حق و الإسلام حق ، و العزة لله و الله أكبر .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد