الذين يغفلون عن وسائل الاتصال غير المرئية، يخسرون كثيراً، ويتعبون كثيراً، وربَّما وصلت بهم غفلتهم عن هذه الوسائل إلى الانقطاع الذي ينتج عنه الضياع، إنَّ مشكلة كثير من الناس، أنَّهم ينقطعون عن ربهم في خضمِّ حياتهم الصاخبة، وينسون (زوارق النجاة) التي تحسن تجاوز أمواج المحيطات. جاءني شاب أديب شاعر بعد فترة غياب طويلة، لم أعرفه أوَّلَ ما رأيته لأنَّ وجهه قد تغيَّر عمَّا كنت أعهد، كانت لحيته كثيفة جميلة الشكل منسجمة مع ملامح وجهه، والآن رأيتها في صورة تشبه صورة النّبات في أوائل ظهوره حينما يصيبه البرد القارس (القُرّ)، فيجعله بين الخضرة والصٌّفرة، والنضارة والذبول، قد تناثرت على جانبي وجهه بصورة غير مريحة، نظرات عينيه تقول عن يأسه وقنوطه ما لا يحتاج معه إلى حديث اللسان، وحينما عرَّفني بنفسه صدمَتني المفاجأة، أنت فلان؟ مالي أراك على هذه الحالة من الوَهَن واليأس، ماذا أصابك؟
قال: أنا شقيُّ، أنا انتهيتُ، لم يعد لي قيمة عند نفسي، ولا عند أهلي، ولا عندك أنت الآن، ولا عند ربي، أنا هيكل إنسانٍ, ــ كما ترى ــ لا يمنعني من الانتحار إلا خوفٌ من التخليد في النَّار.
وانطلق في حديث طويل، وأنا استمع إليه باهتمام، وأجد في كلِّ كلمة يقولها ثغرةً هائلةً من (الانقطاع) عن مصدر السعادة الحقيقي.
ثم شكا إليَّ ديوناً تراكمت عليه بسبب فشله في بعض الأعمال.. كان قلقُه واضطرابُه أبرزَ شيء في شخصيته، بل إنَّ قلقَه هو الذي كان يتحدَّث على لسانه.
طلب مني مساعدته مالياً، وإقراضه مبلغاً من المال يصدٌّ به شكاوى الدائنين، وبعد لحظة صمتٍ, طويلةٍ, لم أكن أجد أثناءَها كلاماً أبدأ به حديثي معه، قلت له: إنَّ مشكلتك ليست الدَّين الذي تتحدَّث عنه، ولا مصائب الحياة التي تشكو منها، إنَّما مشكلتك الكبرى أنت قلبُك، مشاعرك، تفكيرك، هي مصيبتك العظمى أيٌّها الفتى.
أنت انقطعت عن أعظم ما يريحك من هذا العناء، انقطعت عن الاتصال بالسماء، ولذلك أصبحت تعيش هذا الشقاء.
قال لي: أنا جئت اقترض مالاً، ولم أجىء لأستمع إلى مواعظ.
قلت له: الموعظة التي تسمعها هي التي ستساعدك في قضاء دينك، فاستمع إليَّ، وأحسن الاستماع، ودَعك من العناد.
طأطأ برأسه، وسكت سكوتاً يدل على أنَّ الحياةَ بدأت تَدِبٌّ في قلبه وروحه.
قلت له: ما أخبار والديك؟ فانفجر باكياً وقال: منذ ستة شهور لم تكتحل عيناي برؤيتهما، ولم تسعد أذناي بسماع صوتيهما، وتبلغني الأخبار عن حزنهما الشديد، وعن لهجةٍ, غاضبةٍ, يتحدَّث بها والدي عني.
قلت له: ويحك يا فلان، أنت والله تجمع الشقاء من أطرافه، كيف تريد النجاةَ في محيطٍ, من الأحزان والمشكلات قد حطَّمتَ أنت جميع زوارق النجاة فيه؟
ثم قلت له: أنا أوجِّهك الآن إلى ثلاثة أمور ليس عندي لك غيرها:
(1) مراجعة علاقتك مع ربِّك - سبحانه وتعالى-، وعدم مقاطعة المسجد أبداً مهما كانت الشواغل والموانع، فإنَّ هذا سيوقف تيار القلق الذي يجرفك.
(2) العودة مباشرة إلى والديك، والارتماء عند قدميهما، وفتح صدرك لهما، وشرح أمورك لهما شرحاً مفصَّلاً، والاعتذار إليهما، فإنَّك بذلك ستفتح من جديدٍ, بوابة الدعاء الصادق المتصل بالسماء، بل إنَّك بهذه العودة إليهما ستجتثٌّ نَبتَةَ الحيرة والشقاء التي آذتك بأشواكها.
(3) الزم بعد كل صلاةٍ, ابتداء من هذا اليوم، الأذكار والأدعية الواردة عن سيِّد الخلق - عليه الصلاة والسلام -، وأكثر، ثم أكثر من الاستغفار، وردِّد صباحاً ومساءً الدعاء المأثور: ((اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن، وأعوذ بك من العجز والكسل، وأعوذ بك من الجبن والبخل، وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال).
إشارة:
أزحزح هذا الليل عن صدري الرَّحب *** إذا قلت في جنح الظلام: أيا رَبي
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد