بسم الله الرحمن الرحيم
أجرى موقع المسلم حواراً مع فضيلة الشيخ الدكتور عبد العزيز كامل، المحاضر السابق بجامعة الملك سعود، وعضو هيئة تحرير ومجلس إدارة مجلة البيان، حول عدة قضايا إسلامية وعربية.
دكتور عبد العزيز نرحب بكم أولاً في موقعكم موقع (المسلم)، ونود أن نستوضح منكم بعض القضايا الهامة..
أطلقتم صيحة تحذير قبل سنوات طويلة عبر كتابكم (قبل أن يهدم الأقصى) نبهتم فيه على الخطر الحقيقي الذي يهدد المسجد الأقصى، هل ترون أنه ليس هناك ما يحول الآن بين الكيان الصهيوني وبين هدم المسجد الأقصى؟
بحسب الأسباب المادية البحتة، فالأقصى بالفعل في خطر شديد، و موضوع هدم الأقصى بالنسبة لليهود عقيدة وليس مجرد مشروع هدم بناء لبناء مبنى آخر أو هدم مسجد لبناء معبد يهودي، الأمر بالنسبة لهم عقيدة ومرتبطة بمنظومة فكرية متشعبة يرتبط بعضها ببعض، بدءا من السيطرة على أرض المسجد، وانتهاء بالسيطرة على العالم، مرورا بالاستيلاء على القدس كلها، وفلسطين كلها، وما يسمونه بأرض إسرائيل الكبرى كلها، وهذا ما فصلته في ذلك الكتاب الذي صدر منذ ما يزيد عن سبعة عشر عاما، والذي طبع مؤخرا باسم (نذير ونفير).لكن سؤالك عن عدم وجود ما يحول بين دولة اليهود وبين هذا المشروع الإجرامي التخريبي اليوم، الجواب عنه أنه يحول بينهم وبين ذلك - بعد حفظ الله - عز وجل - مواجهتهم لتحد وتهديد مساو في القوة ومضاد في الاتجاه، يكفي لردعهم، بمعنى أنه لو شعر اليهود أن كل يهودي في العالم وكل مصلحة يهودية في العالم مهددة بالفعل في حال إذا مُسّ المسجد الأقصى بسوء، فسوف يفكرون ألف مرة قبل المساس به، لكن هم إذا أمِنُوا جانب المسلمين وشعروا بأن الأمر يمكن أن يمر كغيره من البلايا التي نزلت على المسلمين دون أن يحركوا ساكناً خلال سنوات ما كان يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، فإنهم لن يترددوا في افتعال أي أحداث تنتهي بهذه الكارثة، ينبغي على المسلمين أن يستشعروا هذا الأمر وأن يعرفوا ويوقنوا بأن اليهود الذين أُعدّ لمجيئهم إلى فلسطين منذ القرن التاسع عشر بحيث لم يكد القرن العشرون ينتصف حتى حققوا المشروع القديم وهو العودة إلى فلسطين، ثم خاضوا وخاض أعوانهم نيابة عنهم ست حروب على طريق إسرائيل الكبرى- وآخرها حرب العراق - هؤلاء لم يقيموا الدولة ولم يحتلوا القدس ولم يخضعوا العرب حولهم، إلا من أجل استكمال معالم الدولة الدينية اليهودية بالوصول إلى المسجد الأقصى لهدمه وبناء الهيكل الثالث مكانه، وهذا ما عبّر عنه العديد من زعمائهم عندما قالوا (لا قيمة لإسرائيل بدون القدس ولا قيمة للقدس بدون الهيكل) و مثلما ذكرت في الكتب وفي المقالات المتعددة فإن الأقصى بالنسبة لهم قبلة ضائعة منذ أكثر من ألفي عام وهم مشتتون عن الوصول إليها طيلة هذه القرون الطويلة، فلا يمكن ولا يتصور أن يتنازلوا بسهولة عنها بعد أن وصلوا إليها إلا - كما ذكرت - إذا وجدوا صدا قوياً ًمن رجال أولي بأس شديد.
أزمة الرسوم البذيئة وردة الفعل عليها أثارت العديد من الملفات من بينها رد فعل المسلمين لو ما أقدم اليهود على هذا المخطط، واتجاه أوربا وأمريكا إلى التخلي عن حيادها لتمرير بعض المخططات الأخرى إلى غير ذلك كيف تقرؤون الأحداث من رؤيتكم؟
مواقف النصارى فيما يتعلق بقضية المسجد الأقصى ليست محايدة أصلاً عن تتخلى عن حيادها عن حدوث أي جديد بالنسبة لتلك القضية، فينبغي أن يعلم المسلمون أن هدم المسجد الأقصى وبناء ما يسمونه بالهيكل الثالث مكانه، إذا كان عقيدة يهودية كما أسلفت، فهو أيضاً عقيدة نصرانية، وبالذات عند النصارى البروتستانت الذين يدينون بغالبية مايدين به اليهود في النواحي الاعتقادية، ومن ضمن ذلك الاعتقاد بعودة منتظر في آخر الزمان، تكون عودة اليهود إلى فلسطين ممهدة لمجيئه والنصارى يعتقدون أن المنتظر هو عيسى ابن مريم نفسه، - عليه السلام -، أما اليهود فيعتقدون أنه نبي خاص بهم وهو آخر أنبيائهم. لهذا يتعاون اليهود والنصارى للتهيئة لمجيئه رغم اختلافهم في تعيين شخصه، ومن أبرز أسباب مجئ ذلك المنتظر، إعادة بناء الهيكل ليكون مكاناً أو منبراً لدعوته عندما يعود، حيث يفصل هو في ذلك الخلاف، ويلحق به من هم أولى به.
فالشاهد في ذلك أن النصارى - و بالذات البروتستانت - يشاركون اليهود في هذه العقائد التي تهدف إلى اتخاذ القدس عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية، حتى يأتي زمان المسيح ويكون الهيكل قائماً مهيئا له في هذه العاصمة، وهذا يحل لنا إشكالا كبيرا في تفسير هذا التعاون غير المحدود بين اليهود والنصارى في كل مراحل الصراع مع العرب والمسلمين مع أن كل مصالحهم عندنا وليست عند اليهود. فبريطانيا التي انتعش فيها المذهب البروتستانتي هي بالذات التي حملت المشروع الصهيوني ورتبت له وخططت له ونفذته ومكنت اليهود من احتلال أرض فلسطين بعد أن احتلتها هي بنفسها لمدة 30سنة، حتى إذا ما تهيأت هذه الأرض لليهود وتمكنوا فيها وأقاموا فيها الميليشيات العسكرية والمزارع والمصانع أذنت لهم بأن يعلنوا دولتهم، لتنسحب هي بجيوشها لكي يقيم اليهود دولتهم ويعلنوها مباشرة، ثم جاءت الولايات المتحدة الأمريكية بعدها لتستسلم هذه الراية، راية حمل اليهود، ولتكون بمثابة الحبل الثاني البشري الذي يُمد لهم كما قال الله - عز وجل -: (ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ أَينَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبلٍ, مِنَ اللَّهِ وَحَبلٍ, مِنَ النَّاسِ) (آل عمران: من الآية112)، فحبل الناس الأول كان هو حبل الإنجليز والآن هو حبل الأمريكان، نسأل الله - عز وجل - أن يقطع هذين الحبلين ليعود اليهود إلى ما كانوا عليه من ذلة.
هل تعتقد أن كثيراً من المفكرين والموجهين الإسلاميين قد فقدوا البوصلة في زمن العولمة والإعلام، بحيث باتوا في حيرة من الأولوية المطلوبة مع مستجدات الأحداث السياسية والإعلامية والاقتصادية والاجتماعية......... ؟
التعبير بفقد البوصلة، تعبير كبير، ولا نظن أن هذه الأمة الخيرية تفقد البوصلة أبدا ً، لأن الخير فيها كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى يوم القيامة، لكن بطبيعة الحال فالأمة تعيش في ظروف استثنائية منذ ما يزيد عن مائة عام، فمنذ أن مرضت الدولة العثمانية ثم سقطت والمسلمون يعيشون دون قيادة عالمية سياسية موحدة ولا قيادة شرعية عالمية موحدة، أيضاً فبالتالي هذا أمر طبيعي أن تختلف الاجتهادات وتختلف التصورات في طريقة التعامل مع النوازل المتتابعة والمتكاثرة في هذا الظرف الاستثنائي الطويل، لكن مع ذلك نقول: إن الأمة لأنها أمة خير، وخير أمة أُخرجت للناس، قد أثبتت خيريتها من خلال قيامها بتوزيع أكثر فروض الكفاية التي كان ينبغي أن تقوم بها الدولة الإسلامية العالمية، قُسِّمت هذه الفروض الكفائية على فصائل العمل الإسلامي بمجموعها، فمنها ما يقوم بشأن العلم والتعليم والتربية الإسلامية، ومنها ما يقوم بالعمل الخيري و الإغاثي، ومنها ما يقوم بالعمل الجهادي أو السياسي، في ظل غياب أدوار الحكومات في أكثر بلدان العالم الإسلامي في خدمه الدين. وهذا سر بقاء هذه الأمة للآن، وإلا فإن فشدة ما يلاقيه أهل الإسلام من التحديات ومن العداوات المتعددة كان كافيا لأن يندثر الكثير من معالم هذه الأمة، لكننا نرى العكس يحدث، إذ إن معالم الدين تتجدد، والأمة تُقبل على العودة إلى الدين بخلاف ما كان يظن الأعداء، فالقول بأن الإسلاميين فقدوا البوصلة هذا، تعبير فيه - حقيقة ً- مبالغة، ونحن لا نريد أن نغمط الناس حقهم، ولا أن نجلد ذواتنا.
ربما كانت الأمة بحاجة إلى آليات جديدة للنهضة، لكن هل ترضون عن هذا الكم المتزايد من مواقع الإنترنت والبرامج الدعوية و اللجان والمؤتمرات المعقودة بكثرة، بمعنى آخر هل تخشون من تحول الوسيلة إلى غاية؟
كل هذه البرامج أو المواقع أو المؤتمرات المعقودة أو الأنشطة الإسلامية بوجه عام، لا نستطيع أن نقول إن كثرتها غير مطلوبة فالكثرة مطلوبة لسبب وهو: أن واقع المسلمين فيه ما يستدعي بذل كل مستطاع من الجهود، لكن في النهاية التجربة تثبت أن النشاط الأقوى والنشاط الأصح والأكثر فائدة هو الذي يبقى، وهذه الكثرة الزائدة - إذا كانت زائدة بالفعل - فإنها تزول بطبيعة الأشياء (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمكُثُ فِي الأَرضِ) (الرعد: من الآية17)، بالعكس الساحة الإسلامية تستوعب المزيد من الأنشطة وتستوعب المزيد من أوجه العمل الإسلامي في المجالات الدعوية والإعلامية والبحثية وغيرها، بل قد يقال في بعض الأحيان إننا لم نصل بعد إلى المستوى المطلوب من حيث الكم ولا الكيف، وقد يكون الكم طريقا لترسيب الكيف المنشود.
ما الذي يمكن لمراكز الدراسات الإسلامية أن تقدمه للأمة في ظل غياب دوائر لصنع القرارات الإسلامية التي تستمع إلى توصياتها، أم هل تعول تلك المراكز على صنع النخب فقط؟
لا نستطيع أن نسلم في البداية بأن هناك العديد من مراكز الدراسات الإسلامية بالمعنى الحقيقي، فمراكز الدراسات الإسلامية هي بالفعل قليلة بل نادرة، إذا قيست بمستوى ما تحتاجه الأمة من دراسات جادة، فهذه مشكلة في حد ذاتها وهي ندرة وقلة بل ضعف هذه المراكز، ثم تأتي المشكلة الأخرى وهي أنه حتى في حال وجود مراكز إسلامية جادة تنشأ منها أبحاث مهمة بالفعل، تبرز مشكلة غياب أو انشغال الدوائر المعنية بالنظر فيها واتخاذ القرارات بشأنها في أحيان كثيرة، وهذه مشكلة تؤرقنا نحن الكتاب والباحثين الإسلاميين، إذ كثيرا ما نتساءل: لمن نكتب؟ ومن نخاطب؟ إذا كان ما نكتبه وما نبحث فيه لا يجد من يناقشه، فضلا عن أن يتخذ بشأنه قرارا بالسلب وبالإيجاب، لا أ تحدث عن نفسي شخصيا، ولكن أتحدث عن العشرات من الباحثين والكتاب والمفكرين الجادين الذين قد يكتشفون أنهم يتحدثون إلى بعض البسطاء المتعاطفين فقط، إنها أزمة حقيقية في الساحة الإسلامية، وقد طُرح نقاش منذ فترة قريبة في مثل هذه الموضوعات المتعلقة بأهمية إنشاء مراكز دراسات إسلامية، فكنت أقترح أن يكون من أولويات أنشطة أو فعاليات مثل هذه المراكز، أن تعكف على دراسات لتفعيل دور النخب في صناعة القرار، ووضع تصورات لكيفية إيجاد آلية لتفعيل القناعات الناشئة عن دراسات جادة، وإلا فهناك بالفعل أطروحات جادة، ولكنها تفتقد وتفتقر إلى من يقوم على متابعتها وتنفيذها، أو حتى مناقشتها بجدية، فنحن إذن أمام ثلاث أزمات في هذا الأمر:
الأولى: ندرة مراكز الدراسات الإسلامية الجادة والمنتجة، هذا من ناحية.
الأمر الثاني: غياب- أو بالأحرى انشغال - الجهات المعنية بصنع القرار الإسلامي.
ثم يأتي الأمر الثالث: وهو أنه في حال وجود هذه الدوائر، فقلّما يتعامل بجدية واهتمام من قِبلها مع ما تنتهي إليه وتنادي به الدراسات الجادة التي تتوجه لعلاج الأزمات التي تواجه الأمة.
الولايات المتحدة كانت عازمة على المضي قدما في فتح ثغرة للعمل السياسي في المنطقة العربية، ومنه العمل السياسي الإسلامي، ثم تحركت جهات إسلامية بناء على ذلك لاستغلال تلك الثغرة، هل أصبح رد الفعل الإسلامي مرهونا نوعاً ما بما يصدر من واشنطن؟
الإسلاميون معذورون إذا حاولوا أن ينفذوا من أي ثغرة تُفتح إليهم، لأن أكثر الأبواب مؤصدة أمامهم، فإذا فُتحت بعض الأبواب تحت أي ظروف داخلية أو خارجية للوصول إلى عمل مشروع، فلا يُعاب على الإسلاميين أن يستغلوا هذه الفرص لأنها حقوقهم رُدّت إليهم، فالعمل السياسي الإسلامي أو العمل الدعوي أو الإعلامي عندما تُتاح الفرص له، لا يقال هنا إنه بات مرهوناً بما يصدر من واشنطن أو غيرها، فواشنطن وغيرها من عواصم الطغيان، ليست هي التي تهب الفرص للمسلمين أن يعملوا أو لا يعملوا بل الأصل أن تلك الجهات المعادية هي التي تغلق الأبواب أمام النشاط الإسلامي والعمل الإسلامي الجاد المشروع بكل أنواعه، لكنها قد تفتح - كما ذُكر في السؤال - بعض الثغرات لأنواع من العمل السياسي أو غيره، بطريقة محسوبة لا تخرج عن الخطوط الحمراء التي تضعها الولايات المتحدة الأمريكية أو غيرها من خلال النظر إلى مصالحها وإلى برامجها في المنطقة، لذا نقول إن أي حق من حقوق المسلمين في النشاط سواء كان نشاطاً سياسياً أو إعلامياً أو دعوياً ينبغي استغلال فرصته كلما لاحت، لكن مع الحذر من أن يُستغل الإسلاميون ويكونوا جزءاً من برنامج خارجي أو برنامج معادي لمصالح الأمة.
أجواء المراجعات التي تثار داخل التيار الإسلامي بين فترة وأخرى، هل ترى أن التيار السلفي بشقية العلمي والحركي بحاجة إلى مراجعة جذرية مماثلة الآن؟
أولاً كلمة تيار لا أحب التعبير بها، لأن أهل الإسلام جميعاً هم أمة وليسوا تيارا ً، وهذا من المصطلحات المغرضة التي أراد بها بعضهم أن يساوي بين أهل الإسلام وغيرهم، ممن ينطبق عليهم بالفعل وصف (تيارات) فأي تيارات مخالفة للخط العام للأمة، هي بالفعل مجرد تيارات، هناك تيار علماني.. تيار ليبرالي.. تيار شيوعيي... أما أهل الإسلام، فلا يقال تيار إسلامي بل نحن أمة، الأمة الإسلامية هي الأصل والتيارات الأخرى هذه عارضة، لكن هناك داخل الصف الإسلامي والأمة الإسلامية توجهات وفصائل، تتفاوت قربا أو بعدا من المنهج الصحيح.
أما التوجه السلفي الذي سألتَ عن ضرورة إجراء مراجعة جذرية بالنسبة له، فأقول إن المراجعات في الغالب تكون في المنهج الفكري والعقدي، والمناهج إذا كان فيها خلل واضح، يُطلب فيها بالفعل أن تراجع، لكن التوجه السلفي منهجه النظري على الأقل توجه لا ينبغي أن يقال إنه يحتاج إلى المراجعات أو التراجعات، لأنه المنهج المأخوذ عن السلف، وهو منهج منتهي من حيث تأصيله ومن حيث ثوابته، ومن ثم فإن من يدعو إلى مراجعة منهج السلف الذي يسير عليه التوجه السلفي، دعوته نفسها تحتاج إلى مراجعة بل تراجع، لكن قد يوجد من يخطئ في الفهم أو التطبيق، أما المنهج بذاته فهو لا يحتاج إلى مراجعة بل يحتاج إلى إخلاص و متابعة، لأنه منهج الفرقة الناجية، منهج أهل السنة والجماعة، فمن أخطأ في تطبيق هذا المنهج سواء من ناحية حركية أو من ناحية علمية أو تنفيذية، فهذا الذي يحتاج إلى مراجعات، وأيضا بعض أصحاب التوجه السلفي تحتاج طريقتهم في نشر المنهج وفي الدفاع عنه إلى تطوير، ولا نقول إلى مراجعات بالمعنى السائد لأن المراجعات استقرت - للأسف -، على أنها تراجعات وانتكاسات، مثلما حدث من بعض الجماعات في مصر، حيث أدانت نفسها وتاريخها وأدانت غيرها من الإسلاميين، وتبرعت بإحباط أعمالهم، ولم تزك إلا العلمانيين والمجرمين الذين لا يختلف في إجرامهم في حق الأمة وشريعتها وثوابتها الدينية، بل ومصالحها الدنيوية التي عادوا الدين وأهله من أجلها. التطوير مطلوب، وتعديل المسار في بعض نواحي الفهم والتطبيق مطلوب، لكن ما ليس مطلوبا أن نجعل المسلمين كالمجرمين، ثم نسمي ذلك مراجعات شجاعة.
إبان صدور مجلة المنار للشيخ رشيد رضا عليه - رحمة الله - كان للمقال الورقي تأثيره العظيم في نفوس النخبة الإسلامية، ومن ثم على الشعوب، لماذا ابتعد المقال المقروء وأيضاً المواد المرئية عن لعب الدور ذاته؟
عندما صدرت مجلة المنار في وقتها كان الظرف مختلفا تماماً، فالمعروض من الفكر كان قليلا جداً، والأوقات كانت كثيرة جدا ً، ومساحة الفراغ المعرفي كانت أيضا واسعة جدا ً، لذلك كان طبيعياً أن تبرز هذه المجلة وتعطي هذا الدور البارز في وقته، والآن توجد مجلات كثيرة قد تكون أقوى وأنقى بكثير من مجلة المنار، لكنها ربما لم تأخذ ما أخذته المنار من منزلة، لا لضعفها أو لعزوف الناس عنها، ولكن لأن الكم المعروض الآن ضخم جداً، سواء في المادة المقروءة أو المسموعة أو المرئية، إضافة إلى أن طبيعة العصر الآن وأوقات الفراغ عند الناس، ليسا كما كان الأمر أولاً، كما أن الفراغ المعرفي الذي كان موجوداً في بدايات القرن الماضي لم يعد الآن كما كان بعد الصحوة الإسلامية التي غطت جانباً كبيراً في النواحي العلمية وفي النواحي المتعلقة بالمفاهيم، فأصبح هناك ما يشبه حالة تشبع في بعض المجتمعات والبيئات، بمعنى أنه لم تعد هناك حاجة في نظر الكثيرين للإكثار من القراءة في الجوانب النظرية المفاهيمية، بقدر الحاجة إلى الجوانب العملية التطبيقية.
ألا ترون أن فكرة تجمعات علماء المسلمين هي فكرة ناجعة في التغيير أم أنها تسير ضد حقائق التاريخ ومعطياته؟
فكرة تجمعات علماء المسلمين - كما وصفتها - هي أولاً ليست فكرة حتى نقول إنها تسير ضد حقائق التاريخ ومعطياته، فتجمع علماء ودعاة المسلمين ليمثلوا في مجموعهم قيادة ومرجعية علمية للأمة، أو بالتعبير الأصح: يمثلون ولاية أمر علمية للأمة، هذا من الشرع، وليس مجرد فكرةº لأن الله - عز وجل - قال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمرِ مِنكُم) (النساء: من الآية59)، وأكثر المفسرين على أن المقصود بأولي الأمر في الآية العلماء، وبعضهم يقول العلماء والأمراء، وإذا قلنا بالقول الثاني إن ولاة الأمر هم العلماء والأمراء أي الساسة وأهل العلم، فإن ولاية الأمر السياسية أيضاً ترجع إلى ولاية الأمر العلمية، ولا تنضبط إلا بها ولا تأخذ مشروعيتها إلا منها، إذن فولاية الأمر العلمية هذه إحدى الفرائض التي غُيِّبت والتي أُهمِلت، والتي تحتاج إلى إحياء على المستوى العالمي، لا شك أن هناك في كل مجتمع وكل بلد مراجع علمية تخص هذه البيئة أو ذاك المجتمع، لكن أن يكون لأهل الإسلام جميعاً ولاية علمية يُرجَع إليها عند النوازل الكبرى وعند المسائل الشرعية والعقدية الدقيقة الحديثة أو القديمة، هذا الأمر ينبغي أن تتداعى إليه الجهود، وينظر في صيغة أكثر مناسبة لتفعيله. لأنه إحدى الفرائض الشرعية الغائبة.
علاقة هذه الشرعة - ولا أقول الفكرة - في التغيير، علاقة مباشرة لأن المسلمين ذاقوا الكثير من المآسي ووقعوا في الكثير من المشكلات والأزمات بسبب عدم اجتماع الكلمة في القضايا الكبرى، فكلمات أهل العلم في كثير من الأحيان تتفرق بحسب التوجهات الرسمية المحلية هنا وهناك، وتتأثر المواقف بمؤثرات خارجية لا علاقة لها بالتأصيل العلمي، لكن على كل حال في السنوات القليلة الماضية وُجدت بعض المحاولات لإيجاد مرجعية علمية أو ولاية أمر علمية، تحاول أن تأخذ صفة العالمية، لكنها في رأيي تمدح فقط من باب أنها فتحت الطريق، أو أنها مثّلت البداية القابلة للتطوير، و البدايات لها أحكامها دائما ً، ولا يُتصور أن تكون البداية مثالية في كل الأحوال، ولهذا فإن هذه البدايات، لا ترقى إلى المستوى المرجو والمأمول، والسبب في ذلك هو ما أشرت إليه في إحدى المقالات في مجلة البيان وهي بعنوان (تغيير الخطط في مواجهة خطط التغيير) حيث دعوت أو اقترحت إنشاء رابطة عالمية للدعاة، تكون نواة لإنشاء رابطة عالمية للعلماء، واشترطت فيها أو اشترطت لنجاحها - بحسب وجهة نظري واجتهادي
أن تبتعد عن ثلاثة أمور:
تبتعد عن الرسمية.
وتبتعد عن الحزبية.
وتبتعد عن الإقليمية.
لكن: هل هناك فرص لنجاح مثل هذا المشروع في ظل حالة الفرقة الموجودة الآن؟
أنا متأكد أن جهود التفريق التي تبذل، أضعاف أضعاف جهود التجميع، وفقه الوفاق شبه غائب، لأنه بينما للتفريق أشخاصه ورموزه وأقلامه ومنابره بل وجماعاته، فإن أشخاص ورموز وأقلام ومنابر التوفيق وجمع الكلمة أقل عددا وأضعف نشاطا وحماسا، إضافة إلى أن آفة الحزبيات والرسميات والإقليميات، تنخر في معظم الجهود المبذولة في مشروعات التجميع، وعلى كل حال، إذا أراد أي مشروع من هذا القبيل أن ينجح، فينبغي أن يكون طويل النفس ومتجردا، و ينبغي ألا يرتبط بتوجه حزبي معين، ولا يرتبط بتوجه رسمي معين، ولا يرتبط باتجاه إقليمي محددº لأن التوجه الحزبي في النهاية لمثل هذه التجمعات سوف يؤثر عليها ويحجمها، وسوف يفقدها صلاحياتها واحترامها الكامل عند غيرها من أصحاب التوجهات المختلفة، فالتوجه الواحد سوف يمثل مرجعية لمن يليه فقط، أما الباقون فقد لا يقبلون أن يمثلهم علمياً ومنهجياً أناس من اتجاه آخر، مهما كانت ادعاءات هذا التوجه بأنه يمثل الجميع أو يمثل المنهج الوسط الذي ينبغي أن ينزل على رأيه الجميع.
و التقيد الرسمي ينطبق عليه هذا القول أيضاً، وكذلك الإقليمي، فالتجمعات العلمية أو حتى الدعوية إذا كانت محصورة في قوالب رسمية أو حزبية أو إقليمية، فإنها تخدم في داخل قالبها المحدود فقط، لكننا نطمح إلى تجمع علمي دعوي عالمي يمثل مجموع المسلمين وفصائل الإسلاميين في العالم الإسلامي، وفي مقدمتهم العلماء والدعاة الممثلين لمنهج أهل السنة والجماعة، فهؤلاء أولى من الرافضة وغيرهم من المبتدعة في تمثيل وتوجيه وقيادة الأمة علميا و عمليا، ودعني أقول لك: إن أعداء الأمة أنفسهم أصبحوا يوقنون أن أصحاب التوجه الممثل لأهل السنة والجماعة، يتحولون بانتظام إلى تمثيل الطليعة في الأمة، وقد خبر هؤلاء ذلك في أصقاع مختلفة من العالم الإسلامي، وآخرها العراق، حتى أصبح هناك ما يشبه الترادف بين الإسلام وأهل السنة عندهم وبخاصة أصحاب التوجه السلفي، ولذلك تلاحظ أن جل الحرب العالمية على ما يسمى بالإرهاب في جانبها التعليمي والإعلامي والخيري، هي موجهة إلى المنهج السلفي وحملته قبل غيرهم، حتى إنه ليستعان عليهم بالمنحرفين في الأمة من علمانيين ورافضة وصوفية وغيرهم. ومع ذلك فإنني لا أقصد إلى تزكية أشخاص ولا جماعات بعينها على غيرها، ولكن أقصد تزكية منهج وتزكية معتقد أوقن ويوقن الجميع بمن فيهم الأعداء، أنه يمثل الإسلام الصحيح، وهو معتقد أهل السنة والجماعة الذي يحمله أصحاب التوجه السلفي ويدعون الأمة كلها للالتزمة به، و مع ذلك أيضا فإنني لا أميل إلى الاستمرار في استعمال وصف (السلفيين) لمن يحملون هذا المنهج ويدافعون عنه، بل أفضل الاقتصار على وصف أهل السنة والجماعة وحسب، لأسباب متعددة، منها: أنه الوصف الشرعي المستخدم عند السلف أنفسهم، والموافق لألفاظ النصوص الشرعية التي تصف الفرقة الناجية، ومنها: أن وصف (السلفية) حاولت بعض الشرائح احتكاره بلا حق ولا موجب، وحاولت تحت مسماه أن تشق الصفوف وتفرق الكلمة وتتعالى على الآخرين، ومنها: أن وصف (أهل السنة والجماعة) هو الأكثر قبولا للانضباط العلمي والمنهجي، لأن أصول أهل السنة مستقرة، ولا يسهل إدخال ما ليس منها فيها ولا يسهل انتحالها من غير أهلها، ومنها: أن انتعاش فرق الضلال في عصرنا، وانبعاثها بأصولها وأسمائها، يستدعي وضوحا في التفريق بين فرق الضلال بمجموعها والفرقة الناجية التي استقرت بأصولها واسمها، ومنها: أن أهل السنة أنفسهم شرائح وفصائل متنوعة، فمنهم العلماء وطلاب العلم، ومنهم العامة والبسطاء، ومنهم الطائعون والعصاة، ولا يمكن اختزال هؤلاء جميعا في شريحة واحدة، وقطاع واحد وهو القطاع المعني بالعلم الشرعي، مع جمهوره من محبي العلم الشرعي، وهم ليسوا من أهله في الغالب ولا من طلابه بالمعنى الصحيح، وأخيرا، فإن وصف أهل السنة والجماعة هو الوعاء الأوسع والأرحب، الذي يستوعب ضم شرائح الإسلاميين جميعا تحت مسماه، وهو ما يعين على تحقيق فريضة الاعتصام بحبل الله التي يتشوق الصادقون ويتشوفون إلى بذل المستطاع في أدائها أو الوصول إلى تطبيقها. باختصار فإن مشروع تجمع أو رابطة الدعاة والعلماء، ليس مجرد فكرة - في فهمي - بل هي شرعة، واجبة التنفيذ لتحقيق الاعتصام وتوحيد الكلمة على كلمة التوحيد، والأحداث تثبت أن المسلمين في حاجة إلى هذا الأمر لأن التحديات تتوالى والنوازل تكثر، وكل هذه الأمور تحتاج إلى التقريب بين المسلمين على كلمة سواء من كتاب ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، دون حزبيات ولا رسميات ولا عنصريات محلية أو إقليمية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد