يتأمل غروب الشمس الملايين تلو الملايين في كل زمان ومكان، بل ربما تأمل المشهد كل من كتبت له الحياة فشب حتى شاب، وكرر التأمل الأدباء والكتاب والعشاق وأصحاب الهموم والعُبَّاد وعلماء الطبيعة، كل خرج بفكرة وأمل وألم وذكريات، وتحركت لديه إرادة وتصميم، وجمحت به نوازع ودوافع في جانب، وخبت لديه صور وتضاءلت حوادث في جانب آخر، مرة يفارق المشهد ومرات ينتظر حتى يفارقه المشهد، ينتشي منتصراً في واحدة، وينكسر كسيفاً في الأخريات، وهذه أسرار الغروب وطبيعته! وكثيراً ما يطبع المشهد في قلب وعقل صاحبه الشعور بالنهاية، أو الغياب الطويل الطويل، ولكن الحقائق لا تغيرها الانفعالات والعواطف، والسنن لا تبدلها العوارض والعوائق (فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً) والشمس حين تحجبها الجبال أو الأبنية نهاية يومها لا يخبو توهجها ولا تنطفئ شعلتها، إنها لا تغرب في فلكها الواسع، بل تغرب في فلكنا المحدود، وتتضاءل أمام بصرنا القاصر. فهي في غروب وشروق دائم في اللحظة ذاتها، لا تخلف موعدها بتجدد الظهور، حتى وإن حجبتها الغيوم يوماً أو بعض يوم فإنها لا تفتأ تجدد العهد وتفي بالوعد، وفي الجملة فإنها تغيب عنَّا شطر زماننا القصير!
والغروب يعني قدوم أمير الليل في حاشيته .. القمر والنجوم من حوله، ينير الفضاء الواسع بضوء خافت ذي مزايا لا يحملها سراج الشمس المتوهج، تبصر به ما يلزمك لقضاء ما بقي عليك من مهام فيما بينك وبين الخلق، لا يصلح لها إلا هزيع الليل الأوَّل. تليه هدأة الليل تتأمل فيها يومك وتُراجع عملك، فكم من خطأ ارتكبت! وكم من درس إن أردت أفدت! تخلد بعدها -مجهدَ اليوم والمعاش- لقسط سكن ولباس، ثم يكون ما تبقى من الليل الآخر يفتح لك باب الإنابة ويمد لك يد عون وقدرة لا تقارعها قدرة بشر، فهل تستمد منها قوت يومك الجديد وقوَّته؟ أم تمضي فيه بدون زاد، فتزداد ضعفاً على ضعف؟
وقد يعني الغروب للبعض نهاية العمل، ولغيرهم التوقف عنه، ولآخرين بداية اللهو، وبين هؤلاء وغيرهم من لا يعني له الأمر شيئاً، فالغروب والشروق والنهار والليل سيان لا فرق بينها. أما من يعده النهاية فلن تكون له بداية، ومن يلهو فأبداً لن يعلو، ومن يستوي عنده الضدان فميزانه لا محالة إلى خسران. وأما من يعمل في النهار ويتوقف في الليل فإنه يُضيع شطر العمر، ويزيد على الشطر إن أضاف إليه عدمَ إتقانٍ, لعمل النهار، فيجمع بذلك على نفسه آفتان، وهل يفعل هذا عاقل؟ ألا إنَّ في يأجوج ومأجوج عظة؟ كلما رأوا شمسهم تغرب خلدوا للراحة وانتظروا شروقها، فضاع جهد يومهم…! فاستعن بالله وجد واجتهد ، واصلاً أمسك بيومك ونهارك بليلك ثم بغدك، عندها يُثمر جهدك، وتقترب من هدفك! فإلى متى ترابط في موقعك حتى تستقبل شمس الغد عليه، فألحق بأرض تستقبل فيها الشروق.. ما دام في العمر متسع! ولا تفتأ تذكر أن الشمس لا تغرب على أرض حتى تشرق على أخرى، تدور ثم تدور لا تكل ولا تمل!
عندما تغرب الشمس لا بد أن تعود لتشرق. فهل ستنظرها حتى الصباح في عمل دؤوب؟ ثم توقظ من حولك لاستقبالها؟ أم ستبكيها وتنام مكتئباً، لتصحو كغيرك وقد أيقظك ضجيج صباحها؟ اختر لنفسك فما أنت إلا أحد اثنين: عاشق صادق أو مُعجَبٌ كسول.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد