بسم الله الرحمن الرحيم
ليس من مصلحة أحد في أوطاننا أن يرفع التصلب في الاختلاف السياسي والفكري إلى أعلى الدرجات، بل يتعداه إلى أن يخط خطا يفصل بينه وبين الآخرين، بحجة أن مفاهيمه تعلو على مفاهيم الآخرين، وأن سواه لا يستحق أن يفكر. وقد تبلغ حالة الاستعلاء مداها عند أحد الأطراف، فينكر وجود فكر مختلف، بل لا يرى لأي كان الحق في أن يكون له فكر خاص به، فضلا عن أن يكون مفيدا لغيره.
والأصل في تعامل أحدنا مع الآخر في إطار البلد الواحد والأمة الواحدة، هو جلب الصلاح إليه أو استجلابه منه ودفع فساد عنه أو استدفاعه له، وحيثما وجد مزيد من الاختلاف، احتاج إلى مزيد من العمل التعارفي .
ولا يمكن التسليم للأقلام والكتاب عندنا ، إجمالا وليس تفصيلا ، أن يصيغوا العلاقة بين الحاكم والمحكوم، ولا أن يمارسوا الوصاية أو التسلط الفكري من خلال ما يتاح لهم من منابر إعلامية . وذلك لسبب بسيط وواضح أن الإعلام عندنا ، خاصة الرسمي منه ، لا يزال في مرحلة \"التصلب\"، ولم ينضج بشكل يجعله خادما لأمة ، وغابت عنه الحقائق وسط كم هائل ومتراكم من أنواع الإثارة والفرقعات و\"الفزاعات\".
وأمامنا اليوم ظاهرة مرضية مخلة بالموازين الأخلاقية والفكرية، هو ما يمكن تسميته \"الفكر الأحدي في الحلقة الإعلامية\" ، فكر أنتجته فئة معينة من السياسيين, والإعلاميين, والأمنيين ، ينكر حق الغير في التفكير ، فلا اعتبار معه لفكر مخالف في الفضاء العام . فصارت هذه الفئة تستخدم أدوات ووسائل ينقل بعضها عن بعض ويكرر بعضها بعضا ، حتى كأنها تتكلم لغة واحدة وتصدر عن جهة واحدة . أو بتعبير أدق أن هذا الفكر الأحدي تنتجه القوى المتحكمة في الاتصاليات والمعلوميات والوسائط الإعلامية.
ومن خلال متابعة أشهر الصحف في بلادنا, وأكثرها انتشارا بما في ذلك الصحف الصادرة في لندن، فإنه يمكن أن نفرز مجموعة خصائص لهذا الفكر الأحدي الذي تنتجه هذه الأدوات والوسائط، ولعل أوضحها، أنه فكر واحدي ، حيث يمارس نوعا من الإقصاء المعنوي , والإرهاب المعلوماتي ، فتجده يضخ معلومات مضللة في الاتجاه المعاكس للحقائق والتغيرات ، صانعا بهذا جوا من التوتر والقلق ، ومشككا في التبدلات والتحولات . وأيضا أنه فكر تقليدي ، ويتجلى هذا في أن المتلقي يجد نفسه محمولا على أن يعتقد ويقلد هذا الفكر الذي يصدر عن جهة لها سلطان إعلامي أو معلوماتي غير منازع فيه ، هذا من جانب ، ومن جانب آخر ، فإن وسائط الإعلام ، لما كلن دأبها التنافس في نقل المعلومات على وجه الاستعجال ، بادرت إلى تقليد بعضها بعضا وتسليم بعضها لبعض ، فنتج عن ذلك تكرار يوهم أن المعلومات المسربة أو المبثوثة جد هامة ولا يمكن الاستغناء عنها وتحتاج إلى مزيد ترويج . وأيضا أنه فكر مصلحي ، حيث يخدم الفكر الأحدي مصالح مجموعات قوى نافذة . والأسوأ من ذلك ، أن التكرار يصبح قائما مقام البرهان ، وكأننا صرنا أمام منطق ديكارتي جديد: \"أكرر، فإذن أبرهن\". والتكرار إنما يحول دون استعمال الإنسان عقله بنفسه ، ويحرم المتلقي من حقه في الاعتراض على ما لم يقل عليه دليل .
ويصل بنا هذا الاستنتاج إلى القول بأن الفكر الأحدي الذي تمارسه أشهر الوسائط الإعلامية عندنا، يشكل فكرا بلا أمة ، بمعنى أن أربابه يخدمون مصالح قوى وجماعات وليس أمة معلومة ذات رسالة وخصائص. وعليه فإن الفكر الأحدي هو \"فكر زمن التيه\" .
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد