بسم الله الرحمن الرحيم
إن المطابقة بين القول والفعل، وبين الإيمان والسلوك، ليس بالأمر الهين، وهو في حاجة إلى مجاهدة ورياضة للنفس، وإلى محاولات مخلصة جادة صادقة مستمرة، وإلى صلة بالله عميقة، وإلى استمداد العون منه، واستعانة بهديه.
والحق أن هناك آفة خطيرة عند البعض، حين يصبح الدين حرفة وصناعة، وتصبح العهود والوعود حبرًا على ورق، ويقول الناس بأفواههم ما ليس في قلوبهم، يأمرون بالخير ولا يفعلونه، ويدعون إلى البر ولا يعملونه، وهذه المواقف تصيب النفوس بالشك، وتبلبل القلوب والأفكار، ويصبح الناس في حيرةº لأنهم يسمعون قولاً جميلاً، ووعودًا جذابة، ويشهدون أفعالاً سيئة، وأعمالاً قبيحة.
إن من أخلاق المسلمين الثابتة، ومن طبيعة تكوينهم، أنهم لا يقولون ما لا يفعلون، ولا يختلف لهم قول وفعل، ولا يؤمنون بباطل يخالف الظاهر، إن طبيعتهم التجرد لله في كل حال، طبيعتهم الصراحة، والوضوح، والصدق، والوفاء، والالتزام.
والقرآن الكريم بنى أمة تقوم على تبليغ دينه لأهل الأرض، وبيان منهجه في الحياة، يتم هذا من خلال التكوين العقيدي والعقلي للأمة، والبناء السلوكي والأخلاقي لضمير المسلم وشخصيته، وهذا يلزمه بالوفاء بما عاهد، والعمل بما يقول.
والله- عز وجل - عاتب أصحاب الدعاوى والأماني، وأنكر عليهم عدم التلازم بين القول والعملº بل أخبرهم - سبحانه - أنه يمقت هذا الخلق أشد المقت، ويعاقب عليه أشد العقاب، فقال - سبحانه وتعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفعَلُونَ* كَبُرَ مَقتًا عِندَ اللهِ أَن تَقُولُوا مَا لاَ تَفعَلُونَ} (الصف: 2- 3).
ولقد ندد الحق - سبحانه وتعالى - بالأمم من قبلنا، فقال منددًا باليهود: {أَتَأمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَتَنسَونَ أَنفُسَكُم وَأَنتُم تَتلُونَ الكِتَابَ أَفَلاَ تَعقِلُونَ} (البقرة: 44).
وقال - سبحانه وتعالى - منددًا بالمنافقين، وكاشفًا عن حقيقتهم، وتلاعبهم، وتلونهم وصور لنا حالهم: {وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِن عِندِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِّنهُم غَيرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ} (النساء: 81)، وقال فيهم كذلك: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُعجِبُكَ قَولُهُ فِي الحَيَاةِ الدٌّنيَا وَيُشهِدُ اللهَ عَلَى مَا فِي قَلبِهِ وَهُوَ أَلَدٌّ الخِصَامِ* وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرضِ لِيُفسِدَ فِيِهَا وَيُهلِكَ الحَرثَ وَالنَّسلَ وَاللهُ لاَ يُحِبٌّ الفَسَادَ} (البقـرة: 4- 5)، وروى الإمام أحمد وأبو داود عن عبد البر بن عامر بن ربيعة، قال: أتانا رسول الله- صلى الله عليه وسلم - وأنا صبي، فذهبت لأخرج لألعب، فقالت أمي: تعال أعطك، فقال لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: \"وما أردت أن تعطيه؟ \"، فقالت: تمرًا، فقال: \"أما أنك لو لم تفعلي كتبت عليك كذبة\".
هل رأيتم زجرًا واستنكارًا أشد من هذا الزجر والاستنكار؟ وهو في حق مَن؟ في حق أولئك الذين يعطون لغيرهم القدوة السيئة والفعل القبيح، ومن هنا كان التنكيل بالذي يوجه غيره إلى الخير، ويأمره بالمعروف، ثم لا يلتزم به هو، شديدًا، والفضيحة في الدنيا ويوم القيامة مخزية أمام الأشهاد.
روى البخاري ومسلم عن أسامة بن زيد- رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: \"يجاء بالرجل يوم القيامة، فيلقى في النار، فتندلق أقتابه – أمعاؤه - فيدورها كما يدور الحمار برحاه، فيجتمع أهل النار عليه، فيقولون: يا فلان، ما شأنك؟ ألست كنت تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر؟ فيقول: كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه\"، ثم قال: وإني سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم - يقول: \"مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار، قلت: من هؤلاء يا جبريل؟ \" قال: \"خطباء أمتك الذين يقولون ما لا يفعلون\".
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن منصور بن زازان قال: \"نبئت - أي أخبرت - أن بعض من يلقى في النار تتأذى أهل النار بريحه، فيقال له: ويلك، ما كنت تعمل؟ ما يكفينا ما نحن فيه من الشر حتى ابتلينا بك، وبنتن ريحك؟ فيقول: كنت عالمًا فلم أنتفع بعلمي\".
ويقول الشاعر المسلم:
وغير تقي يأمر الناس بالتقى * * * طبيب يداوي الناس وهو عليل
وما أعظم موقف الفاروق عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين كان يجمع أهل بيته ليقول لهم: \"أما بعد فإني سأدعو الناس إلى كذا وكذا، وأنهاهم عن كذا وكذا، وإني أقسم بالله العظيم، لا أجد واحدًا منكم أنه فعل ما نهيت الناس عنه، أو ترك ما أمرت الناس به إلا نكلت به نكالاً شديدًا\".
ثم يخرج - رضي الله عنه - بعد إلزامه لنفسه ولأهله، ليدعو الناس إلى الخير، فلم يتأخر أحد عن السمع والطاعة، بإعطائهم القدوة بفعله وسلوكه وإلزام نفسه وأهله، قبل إعطائهم إياها بكلامه وقوله.
هذه الثوابت التي ارتبطت بأسلافنا، وبرزت في حياتهم، وحرصوا على تطبيقها في واقعهم، بدأت تتوارى عند البعض، وأصبح التطابق بين القول والعمل عملة صعبة، بل لقد بدأت مفاهيم البعض للحياة بصورة عامة تتخذ شكلاً مغايرًا لما يجب أن يكون عليه من الاستقامة والوضوح، وقد جاء هذا التغيير نتيجة لانحراف منهج الحياة اليومية وابتعادها المستمر عن مصادر الاستقامة، وطريق الوضوح، حتى لقد بدا للكثير من الناس استحالة العودة إلى المنبع الصافي والاغتراف من رصيدنا الفكري العريق مما يعيد إلى نفوسنا الشعور بالثقة، ويولد فينا القدرة على مجاهدة النفس والتغلب على مكاره الحياة.
وهو تصور ولدته الظروف القاسية الطويلة المدى، التي عاشتها أمتنا مكرهة بفعل التحديات والمؤامرات المتوالية والمتجددة، لكن هذا لا يعفينا على الإطلاق من المسئولية، ولا يقلل من عبئها الثقيلº بل على العكس، يجب أن يكون حافزًا قويًّا على مواجهة التحديات والوقوف صفًّا واحدًا في المواجهة الفعلية لصد تيار هذه التحديات التي تتضافر جميعها على إضعاف قوة الالتزام بالإسلام في نفوسنا وفي واقع حياتنا، وبالتالي إخضاعنا إلى لون من الحياة وأنماط من السلوك تذوب معها فكرتنا المستقلة، عن الكون والحياة والإنسان، وتتلاشى مفاهيمنا الصحيحة، ونبقى عالة على الغير، مهزومي الفكرة، نعيش بدون ثقة، ونحيا على غير هدى، ونضرب في متاهات.
ولعل من أبرز الأهداف التي تعلن الحرب علينا من أجلها: هي ألا يكون بيننا وبين الإسلام ترابط عقلي وعاطفي، وألا نكون ملتزمين به أصدق الالتزام، ذلك أن الإسلام قوة هائلة، ورصيد ضخم، أودع الله فيه كل أسباب القوة وكل دعائم النصر، ورسم من خلال تعاليمه معالم الطريق لكل أجيال البشرية.
ومن أجل أن الإسلام قوة، ومن أجل أن هذه القوة هائلة ولا يمكن أن تواجه، وهي تتفاعل وتعمل عملها الرباني في النفوس وتنتج آثارها في واقع الحياة، من أجل هذا، شنت حرب \"الانفصام\"، وأعلنت حالة الفزع في كل أوساط الكفر والمنافقين من أجل إحداث زعزعة في اليقين، وتشويش على الفكرة، وبالتالي توجيه ظروف الحياة وجهة تحقق لهم ما أرادوا من غلبة وما خططوا له من تدمير.
وعلى الرغم من أننا ندرك أبعاد هذه الحربº بل نلمس تأثيراتها في حياتنا اليومية، على الرغم من هذا، فما يزال الكثير منا يمني النفس بالانتصار على هؤلاء المحاربين دون أن يسهم بنفسه أو يعطي من ذاته العطاء الذي يتطلبه الموقف وتدعو إليه الحاجةº بل يكتفي بترديد ما يحوي بالشلل الفكري والعجز عن مواجهة خطوات التحدي بخطى أقوى منها وأشد.
وليس من شك، أبدًا في أن الضعف لا يولد القوة، ولكن الإحساس العميق بالمسئولية ورغبة الانفلات من دائرة الضعف المظلمة قد تدفع إلى إعمال الذهن وتسخير العقل وكل الخبرات من أجل أن يكون هناك ما يدفع الظلم ويرد وسائل الإكراه، وبالتالي يجعلنا أكثر التصاقًا بالحق، وأشد تمسكًا بالصبر، وحرصًا على إبراز مظاهر الالتزام بالعقيدة وبالدين الذي ندين به.
ولابد لنا في هذه الحالة من الفهم لوجودنا والتقدير الكامل لمسئولياتنا، ذلك أننا لا نحقق صفة الالتزام بالإسلام ونحن نعلن هذا مجرد إعلان، نظاهر به الآخرين، ونرضي به أهلنا وذوينا، بل يتحقق الالتزام بأخذ هذا الدين جملة وتفصيلاً، من بداية العقيدة وتربية الوجدان وقيادة الروح إلى نهاية التشريع وقمة الأخلاقيات.
وهكذا الإيمان، لا يمكن مجرد دعوى عريضة أو صيحة موقوتة، أو فكرة تطفو على السطح، وتفتقر إلى العمق والتفاعلº بل لابد من أخذ الإسلام بقوة الإيمان به وشدة الحاجة إليه، كي يستطيع أن يصلح من أوضاعنا ويهذب من سلوكنا وتصوراتنا.
وما جدوى إيمان يتردد على الألسن وحدها؟ وما فائدة الإسلام، وهو لا يُمَكَّن من إصلاح أوضاع الناس الفاسدة؟! وما قيمة ما نقوله للناس من أن شريعة الإسلام هي العدل والرحمة والمساواة والأخوة..وحياتنا العملية تحكي للناس صنوفًا من الظلم والقسوة، وتصور فروقًا هائلة بين أفرادنا وجماعاتنا في طول العالم الإسلامي وعرضه؟
إن الإسلام يُحَمِّل أتباعه مسئولية الالتزام به، وهو لا يفرض هذا الالتزام كما تفرضه قوانين البشر وأنظمتهم من خارج الفرد وبعيدًا عن ذاتهº بل إنه يعمل من الداخل، من ضمير الفرد وتصوراته، ومن داخل الأمة ونظامها، ولا يترك ثغرة تسيء إلى الفرد أو الأمة إلا سدها بتوجيهاته وحكمة تشريعاته، وقد صنع بذلك نماذج من البشر ما تزال مضرب المثل في صدق الإيمان وحرارة التفاعل، وهي نفسها تعطي الدليل العملي على إمكانية تطبيق التجربة من جديد، وتركها تفعل فعلها وتحدث آثارها في عالم النفس ودنيا الواقع، وما يحدث مرة يمكن أن يحدث مرات ومرات.
وقد يعترض البعض بأننا مؤمنون والحمد لله بالإسلام، ومصدقون للرسول الكريم محمد- صلى الله عليه وسلم - وسالكون درب الدين بإخلاص وثقة، وهذا حق، ولكن الكثرة غير ذلك، عامة المسلمين يواجهون أزمة انفصام بينهم وبين حقيقة الدين وروحه، يواجهونها بفعل سلوكهم وسوء تصوراتهم، ولا يجدون من ذواتهم ما يحرك فيهم شعور الحاجة إلى الاستقامة، أو يدفعهم إلى أخذ الإسلام بجدية أكثر وبالتزام أشدº إذ لا يكفي أبدًا أن أدعي الإسلام وسلوكي سيئ مع الله ومع الناسº إذ إن صحة العقيدة واستقامة التصور تفرضان على المسلم التزامات محددة لا يتم إيمانه ولا يصدق إسلامه إلا بأخذها كاملة مأخذ الجد وبأمانة.
فيا ليتنا ندرك خطر ما نحن فيه من سلبية مسرفة، وما نعانيه من انفصام في حياتنا، فنتحول عن سلبيتنا ونعطي من ذواتنا كل جهد وطاقة من أجل إعزاز الإسلام وإعزاز أنفسنا.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد