أسير محرر يروي معاناة أسر عمرها 9 سنوات


بسم الله الرحمن الرحيم

 

9 سنوات من حياة رامي عزّت البرغوثي (29 عاماً)، مثقلة بالمعاناة وآلام السجن وسطوة السجّان، فالسجن اليوم يعني الإذلال والقمع والعقاب.

 

 (كنت شاهداً حاضراً على كثيرٍ, من المواقف التي مرّ بها بعض زملائنا في الأسر، فظروف الاعتقال في هذه السجون اليوم شبيهة إلى حدٍّ, كبير بالظروف التي كانت سائدة أوائل الثمانينات، بكلّ ما تحمل من معاناةٍ, وقمعٍ, وإذلال) يقول رامي.

 

 ويتابع: "تصوّر ونحن نعيش في القرن الواحد والعشرين، أن يعاقِب ضابط السجن أحد الأسرى لأنه "عطس" بعزله لمدة أسبوع في زنزانة قذرة وضيقة ومعتمة وتفتقر إلى أدنى متطلبات الحياة الكريمة، وليس هذا فحسب بل يتمّ فرض غرامة مالية عليه مقدراها 200 دولار".

 

 ويضيف: "وعندما احتجّ هذا الأسير الذي كان في سجن (ريمونيم) على هذا العقاب تمّ مضاعفة الغرامة المالية عليه لتصل إلى 400 دولار أمريكي تخصم من حسابه أو ما يسمّى في العرف الاعتقاليّ بالكانتينا".

 

التوجيهيّ في السجن:

عام أربعة وتسعين كان الاعتقال الأول.. فرامي الذي لم يتجاوز عمره آنذاك ثمانية عشر عاماً، وهو بحسب القانون الدولي طفلٌ كان يستعدّ لامتحانات التوجيهيّ.

 

 ففي يوم التاسع من شهر شباط لعام 94، اقتحم جنود مدججون بالسلاح منزل أسرته الكائن في بيت ريما إلى الشمال من رام الله، قيّدوا يديه أمام ناظري عائلته، ثم نقلوه في جيبٍ, عسكريّ إلى معسكر الاعتقال في سجن الظاهرية والذي كان خاضعاً لإمرة الجيش الصهيوني.

 

 هناك خضع لعدّة أساليب تحقيقٍ, قاسية، منها الشبح وقلة النوم والتنكيل، والصفة الغالبة في هذا الاعتقال كان الضرب على يد الجنود. التهمة كانت جاهزة دوماً، العضوية في تنظيم غير شرعيّ، وفي حالة رامي كانت حماس، والقيام بنشاطات معادية لقوات الجيش العاملة في المنطقة... وفي حالة رامي كان ضرب الحجارة وإغلاق الشوارع بالمتاريس وكتابة الشعارات التحريضية على الجدران.

 

 وأمام محكمة هزلية، قضاتها وحراسها ونيابتها العسكرية من الجيش الصهيونيّ، حكم على رامي بالسجن الفعلي ثمانية شهور، قضاها في سجن مجدّو.

 

اتهامات جديدة... تبقيه في السجن:

ربما رغب رامي في هذه التجربة، فالسجن - كما تعلّم من والدته - للرجال، ورامي يريد أن يصبح رجلاً بسرعة، فالسجن كانت تجربة لا تعوّض بالنسبة له، التقى تحت خيام مجدّو بأشخاصٍ, وتعرّف إلى مجاهدين وأبطال كان يسمع عنهم ولا يحظى بلقائهم، فصقلوا شخصيّته، وباتوا الأقرب إلى فؤاد رامي، فعرفهم إخواناً غيورين عليه، حريصين على دينه وعقله ووعيه.

 

 وما لبث أن خرج رامي من السجن، مُنهياً المرحلة الأولى من حياته الاعتقالية، حتى تم اعتقاله، ولكن هذه المرة باتهامات جديدة، وأكثر قسوةً من الأولى.

 

 "إلقاء قنابل ملوتوف" أو زجاجات حارقة درج أبطال انتفاضة 87 على استخدامها ضدّ السيارات العسكرية الصهيونية، كانت التهمة الجديدة لرامي. وهي تهمة كانت تعتبر بالغة الخطورة في ذلك الوقت، بعض الفلسطينيين تعرّضت بيوتهم إلى الهدم أو الإغلاق بسبب هذا النشاط، فحكم على رامي بالسجن ثلاث سنوات ونصف ولم تُحتَسب ثمانية الشهورٍ, الأولى من اعتقاله الأول.

 

أربع سنوات ونصف السنة في السجن:

أنهى رامي البرغوثي فترة محكوميّته الثانية في السادس عشر من شهر آب من عام 98، خرج إلى بيت ريما محاولاً العودة إلى حياته، فخطب إحدى قريباته، واجتهد ليبني بيتاً جديداً له، فانخرط في ميدان العمل برفقة شقيقه في مجال الألمنيوم.

 

و لكن كان لقوات الاحتلال رأيٌ آخر، ففي الحادي والثلاثين من شهر تموز عام 2000 اعتُقِل في كمينٍ, عسكريّ على مدخل بيت ريما. نُقِل من هناك مباشرة إلى مركز التحقيق في سجن المسكوبية بالقدس المحتلة، حيث خضع إلى تحقيقٍ, عنيفٍ, وقاسٍ, لأكثر من 90 يوماً.

 

 يقول رامي: "في اليوم الأول الذي وصلت فيه إلى المسكوبية جاء إليّ أحد ضباط المخابرات ليخبرني رسالته بأنّه "سواء اعترفت أم لا فإنه لن يسمح بالإفراج عني وسأبقى في السجن". ويتابع رامي: "و خلال تسعين يوماً حاولت المخابرات الصهيونيّة انتزاع اعترافاتٍ, مني حول علاقتي بالجهاز العسكري لحركة حماس".

 

 ويقول: "في تلك الفترة اعتقل جهاز الأمن الوقائي في رام الله أحد أبناء القرية وكان من المقربين إليّ بتهمة تشكيل خلايا عسكرية لحماس في قرى شمال وغرب رام الله، فظنّت المخابرات الصهيونية أن لي علاقةً بهذه الخلايا لذا اعتقلت".

 

 وبعد انتهاء التحقيق معه في سجن المسكوبية نُقِل رامي إلى المحكمة العسكرية في بيت إيل، وكانت التهمة القيام بنشاطات في الكتلة الإسلامية في الجامعة. وتابع: "كان مفاجِئاً لي أنهم أحضروا إلى المحكمة شهاداتٍ, موقّعة من شخصين - كانا معتقلين في سجن مجدّو عام 97 - يتّهمونني بإخضاعهم للتحقيق بتهمة التخابر مع الشاباك، وعليه فقد حكموا عليّ بالسجن أربع سنوات ونصف إضافة إلى غرامة ماليّة مقدارها 1000 دينار تقريباً".

 

انزل من الباص... ستبقى هنا!!

6/8/2003، كان اليوم الأصعب في حياة رامي الاعتقاليّة، ليس له فقط، بل لعائلته وخطيبته وإخوانه في السجن وحتى لسجّانيه.

 

 يقول رامي عن هذا الموقف: "تابعنا أنباء الصفقة التي عقدتها حكومة الاحتلال مع حزب الله، والتي شملت إعادة جثث الجنود الثلاثة إلى جانب الضابط (الحنان تننباوم) مقابل الأسرى العرب وبضع أسرى فلسطينيين، وكنت أحدهم".

 

يقول رامي: "لم أكن مهتمّاً بهذا الأمر في البداية، فقد أخبرني بعض الأصدقاء أنّ اسمي في لوائح الإفراجات، ولكني أخبرت عائلتي أن لا تصدّق كلّ ما يُقال حتى أتأكد من الأمر بنفسي". وبسبب طبيعة عمل رامي في سجن النقب، حيث كان ممثّلاً للأسرى أمام إدارة السجن، سمح له ذلك الاتصال مع مسؤولين وضباطٍ, مطلعين في حيثيات هذه الصفقة.

 

و يضيف رامي: "في ليلة الإفراج وتحديداً عند الساعة التاسعة مساء حضر أحد الضباط وأخبرني بشكلٍ, رسميّ أنّه سيتمّ الإفراج عني غداً، وبهذا أبلغت عائلتي بهذا الخبر فكانوا سعداء جدّاً به مثلي تماماً".

 

 أمضى رامي ليلته تلك مع إخوانه في سجن النقب، يودّعهم ويشدّ من أزرهم، ويرفع من معنويّاتهم، فهو حقاً يصعب الفراق عليه بعد هذه السنوات الطويلة، فهو أمضى أجمل أيامه معهم، يأكلون معاً وينامون معاً، يحزنون ويفرحون معاً، حياته وحياتهم تماثلت بكلّ تفاصيلها.

 

 "عند الساعة السابعة والنصف صباحاً، بدأ وصول الباصات، ثم خرجنا واحداً تلوَ الآخر، وكنت آخرهم. ولأنّ ضباط السجن يعرفونني، حضر إليّ مدير السجن وبرفقته قائد المنطقة الجنوبية في الجيش الصهيونيّ وعرّفه عليّ، ودّعني وصعدت إلى الباص".

 

 "أغلقت أبواب الباص، وطلبوا منّا أن نفكّ قيودنا، ثم سلّمونا أغراضنا الشخصية، عندها بتّ أشعر أنّي أصبحت حراً".

 

 ويتابع رامي: "في هذه اللحظات المشدودة والأعصاب متوترة، فتحت أبواب الباص فجأة، ثم صعدت مجنّدة تعمل في السجن وتعرفني جيّداً، توجّهت إليّ وكان الوجوم بادياً على وجهها، (رامي: عندي أخبار موش كويسه إلك، إنت موش امروح!!!)"..

 

يضيف رامي: "في اللحظة الأولى لم أصدّق ما تقول، كنت أعتقد أنها تمازحني: فقلت لها: هل هذا فيلم؟ أم مزحة؟ ".

 

أخبرته أنّه لا فيلم ولا مزحة، فهي لا تمزح في مثل هذه المواقف.. "طلبت منّي النزول، وأعادوا قيودي وحملوا أغراضي الشخصية ونزلت من الباص"، ولكن رامي كان لا يزال يعتقد أنّها مزحة دبّرها أحدهم...

 

 يقول رامي: "وسط ذهولي ومن معي من زملائي الأسرى تحرّكت الباصات في طريقها إلى الضفة الغربية وبقيت أنا هناك، أدركت حينها أنّ الأمر حقيقيّ، لن أخرج... عدت إلى السجن، فوقف الأسرى كلّهم مصدومين مذهولين من المشهد، لقد كان الموقف مؤثّراً جدّاً جدّاً، فبدأ الجميع في التكبير وهزّ الشبك، إنّه غضبٌ عارم اجتاح الجميع، لما كان من الاستهتار بمشاعرنا إلى هذه الدرجة، كان الحزن هو المخيّم".

 

 ويتابع رامي: "عشت لحظات إرباكٍ, شديدة، كانت لحظات عصيبة على القلب والنفس والعقل معاً، كيف سأبلّغ أمّي بهذا الخبر، كيف أخبر خطيبتي وهي التي تنتظرني أمام سجن عوفر، حيث سيصل أسرى رام الله هناك... كان لا بدّ من إخبارهم، تشجّعت واتصلت بوالدي فأخبرتهما بما حدث معي، لا يمكنكم تصوّر هذا الموقف، كان صعباً للغاية".

 

 حاول رامي معرفة سبب هذا الإجراء الأكثر تعسّفاً بحقّه، وعلم من مصادر حقوقية في حينه أنّ جمعية الدفاع عن ما يسمّى بضحايا الإرهاب قدّمت التماساً إلى المحكمة العليا ضدّ الإفراج عنه فعُلّق القرار لحين البتّ فيه.

 

 وكان يقف من وراء هذا الموقف مجموعة من عملاء الشاباك الذين كشفت حقيقتهم في السجن، وباعوا وطنهم ودينهم وشعبهم ونفوسهم بثمنٍ, بخسٍ, للمخابرات الصهيونية. بعد ذلك نُقِل رامي إلى أقسام العزل في سجون بئر السبع ونفحة وأخيراً ريمونيم، حيث أُفرِج عنه من هناك في الواحد والعشرين من شهر آب لعام 2004.

 

 ليخبرنا أنّ السجن عذاب، فالسجن سجنٌ ولو كان من ذهبٍ,... إنّ فقدان الحرية لأيّ إنسان شعورٌ صعب للغاية، إحساسك أنّ الباب مغلق، مجرّد رغبتك في الخروج من الباب غير ممكنة..هذا القهر بعينه.

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply