علامات في طريق الدعاة والمربين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

من علامات السعادة والفلاح أن العبد كلما زيد في علمه، زيد في تواضعه ورحمته، وكلما زيد في عمله، زيد في خوفه وحذره، وكلما زيد في عمره نقص من حرصه، وكلما زيد في ماله زيد في سخائه وبذله، وكلما زيد في قدره وجاهه، زيد في قربه من الناس وقضاء حوائجهم والتواضع لهم.

وعلامات الشقاوة أنه كلما زيد في علمه زيد في كبره، وكلما زيد في عمله زيد في فخره واحتقاره للناس وحسن ظنه بنفسه، وكلما زيد في قدره وجاهه زيد في كبره وتيهه، وهذه الأمور ابتلاء من الله وامتحان يبتلي بها عباده، فيسعد بها أقوام ويشقى بها أقوام.

وكذلك الكرامات: امتحان وابتلاء كالملك والسلطان والمال، قال - تعالى -عن نبيه سليمان لما رأى عرش بلقيس عنده: {هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر} [النمل: 40]، فالنعم ابتلاء من الله يظهر بها شكر الشكور، وكفر الكفور، كما أن المحن بلوى منه - سبحانه -.

قال - تعالى -: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن * وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول ربي أهانن * كلا [الفجر: 15-16].

أي: ليس كل من وسعت عليه يكون ذلك إكراماً مني له، ولا كل من ضيقت عليه يكون ذلك إهانة مني له\" [ملخص من كتاب الفوائد لابن القيم].

 

تحبيب الله إلى خلقه

يبيِّن ابن القيم في كتابه [الفوائد] طريقة بعض الناس في تبغيض الله إلى خلقه، وطريقة الإصلاح والدعوة الصحيحة فيقول ما ملخصه:

\"الجهال بالله وأسمائه وصفاته المعطلون لحقائقها يبغِّضون الله إلى خلقه، ويقطعون عليهم طريقة محبته، والتودد إليه بطاعته من حيث لا يعلمون، فمنها أنهم يقررون في نفوس الضعفاء أن الله - سبحانه – لا تنفع معه طاعة، وإن طال زمانها وأتى بها العبد بظاهره وباطنه، وأن العبد ليس على ثقة ولا أمن من مكره، بل شأنه - سبحانه - أن يأخذ المطيع التقي من المحراب إلى الماخور، ومن التوحيد والسبحة إلى الشرك والمزمار، ويقلب قلبه من الإيمان الخالص إلى الكفر، وصاحب هذه الطريقة يظن أنه يقرر التوحيد والقدر ويرد على أهل البدع وينصر الدين.

إن هذا الاعتقاد إذا استحكم في قلوب الناس صاروا إذا أُمروا بالطاعات، وهجر اللذات، بمنزلة إنسان جعل يقول لولده:

\"معلمك إن كتبت وأحسنت وتأدبت ولم تعصه ربما أقام حجة عليك وعاقبك وإن كسلت وتعطلت وتركت ما أمرك به ربما قربك وأكرمك\" فيودع بهذا القول قلب الصبي ما لا يثق بعده إلى وعيد المعلم على الإساءة ولا وعده على الإحسان، وإن كبر الصبي، وصلح للمعاملات والمناصب قال له: هذا سلطان بلدنا يأخذ اللص من الحبس فيجعله وزيراً أميراً ويأخذ الكيس المحسن فيخلده في الحبس ويقتله ويصلبه، فإذا قال له ذلك أوحشه من سلطانه، وجعله على غير ثقة من وعده ووعيده وأزال محبته من قلبه وجعله يخافه مخافة الظالم الذي يأخذ المحسن بالعقوبة، فأفلس هذا المسكين من اعتقاد كون الأعمال نافعة أو ضارة، فلا بفعل الخير يستأنس ولا بفعل الشر يستوحش، وهل في التنفير عن الله، وتبغيضه إلى عباده أكثر من هذا؟

ولو اجتهد الملاحدة على تبغيض الدين والتنفير من الله لما أتوا بأكثر من هذا، ولعمرو الله: العدو العاقل أقل ضرراً من الصديق الجاهل.

ولو سلك الدعاة المسلك الذي دعا الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم - به الناس لصلح العالم صلاحاً لا فساد معه، فالله - سبحانه -، أخبر: أنه إنما يعامل الناس بكسبهم ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلماً ولا هضماً، ولا يخاف بخساً ولا رهقاً، ولا يضيع عمل محسن أبداً، ولا يضيع على العبد مثقال ذرة، ولايظلمها.

قال - سبحانه -: {وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما} [النساء: 40]

وقال: {وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين} [الأنبياء: 47]

وقال: {وجزاء سيئة سيئة مثلها} [الشورى: 40].

 

داعية القوم لا يحسد ولا يحقد:

بيَّن الإمام الغزالي في كتابه [إحياء علوم الدين] معنى الحقد والحسد فقال ما ملخصه: اعلم أن الغيظ إذا كظم لعجز عن التشفي في الحال رجع إلى الباطن فاحتقن فيه فصار حقداً، وعلامته: دوام بغض الشخص واستثقاله والنفور منه فالحقد ثمرة الغضب، والحسد من نتائج الحقد\".

وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (لا تباغضوا ولا تقاطعوا ولا تحاسدوا..).

قال ابن سيرين: \"ما حسدت أحداً على شيء من أمر الدنيا لأنه إن كان من أهل الجنة فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا، وهو يصير إلى الجنة، وإن كان من أهل النار فكيف أحسده على شيء من أمر الدنيا وهو يصير إلى النار؟ \".

إن النفس قد جبلت على حب الرفعة فهي لا تحب أن يعلوها جنسها، فإذا علا عليها شق عليها وكرهته وأحبت زوال ذلك ليقع التساوي.

إن من يحسد نبياً على نبوته فيحب ألا يكون نبياً، أو عالماً على علمه فيؤثر ألا يرزق ذلك أو يزول، فهذا لا عذر له، ولا تجبل عليه إلا النفوس الكافرة أو الشريرة، فأما إن أحب أن يسبق أقرانه، ويطلع على ما لم يدركوه، فإنه لا يأثم بذلك فإنه لم يؤثر زوال ما عندهم عنهم، بل أحب الارتفاع عنهم ليزيد حظه عند ربه، كما لو استبق عبدان إلى خدمة مولاهما فأحب أحدهما أن يستبق، وقد قال - تعالى -: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26].

ومن أسباب الحسد: العداوة، والتكبر، والعجب، وحب الرياسة، وخبث النفس وبخلها.

وأسوأ الأسباب خبث النفس وشحها على عباد الله فإنك تجد من الناس من لايشتغل برئاسة ولاتكبر، وإذا وصُف عنده حُسنُ حال عبد من عباد الله - تعالى -فيما أنعم عليه به، شق عليه ذلك، وإذا وصُف له اضطراب أمور الناس، وإدبارهم، وتنغيص عيشهم، فرح به، فهو أبداً يحب الإدبار لغيره، ويبخل بنعمة الله على عباده كأنهم يأخذون ذلك من ملكه، وخزائنه.

إن علماء الدين لا يكون بينهم محاسدة، لأن مقصودهم معرفة الله - سبحانه وتعالى -، وهو بحر واسع لا ضيق فيه، وغرضهم المنزلة عند الله ولا ضيق فيما عند الله، لأن أجل ما عند الله لذة لقائه، وليس فيه ممانعة، ولا مزاحمة، إلا أنه إذا قصد العلماء بالعلم المال، والجاه تحاسدوا\". نسأل الله الإخلاص والصدق في القول، والعمل.

الداعية إلى الله يثير التفكير في عقول المدعوين: {ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقا} [نوح: 15]

ومما يثير التفكير أن ننظر في بعض كلمات للعلماء:

* إنني لا أتصور لقمة الخبز رسمت لنفسها هذا الطريق تحوَّلت من تلقاء نفسها إلى دم، والدم تحوَّل من تلقاء نفسه إلى مني، والمني تحوَّل من تلقاء نفسه إلى إنسان سوى العضلات مكتمل الحواس يمشي على الأرض.

* هل في بطن الأم مصانع تصنع الأيدي والأرجل؟ من الذي شق الجفون ووضع العين المبصرة، من الذي صنع الأنف، والأذن؟ إنها مصانع، ولكنها من طراز \"كن فيكون\".

* هذه النجوم والكواكب التي لا يعلم عددها إلا الله: كيف تدور في مدارات معينة، وبسرعة هائلة لا تصدم ولا تسقط؟ قال - سبحانه - {ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه} [الحج: 65].

* هذا الفلاح يزرع التفاح بجوار الفلفل: الأرض واحدة، والماء واحد فمن الذي وضع الحلاوة في هذا، والحرافة في هذا؟

* هذه أعواد القصب خارجة وسط تربة منتنة، ومروية بماء كدر، فمن الذي وضع فيها السكر؟

* إن أفضل درس ندرسه لأولادنا في توحيد الربوبية، أن نأخذهم إلى حديقة غناء، ونشير إلى الورود، ونقول بأي ريشة رُسمت هذه الألوان؟

* هذا البحر، من الذي جمع فيه ذرات الأوكسجين والهيدروجين وجعلها صالحة لحمل السفن الماخرة؟

* من الذي زود الأسماك بالخياشيم لتستخلص الهواء المذاب في الماء؟ [من كلمات الشيخ محمد الغزالي - يرحمه الله -].

من الجهل أن تطلب تعظيم الناس لك وأنت لا تُعظم الله، في معنى قوله - تعالى -: {ما لكم لا ترجون لله وقارا} [نوح: 13].

قال ابن القيم - يرحمه الله تعالى -في كتابه [الفوائد] ما ملخصه:

من أعظم الظلم والجهل أن تطلب التعظيم، والتوقير لك من الناس، وقلبك خال من تعظيم الله وتوقيره، فإنك توقر المخلوق وتجله أن يراك في حال لا توقر الله أن يراك عليها، قال - تعالى -: {مالكم لا ترجون لله وقارا} [نوح: 13] أي: لا تعاملونه معاملة من توقرونه، والتوقير هو التعظيم.

فهم لو عظموا الله، وحدوه، وأطاعوه، وشكروه فطاعته - سبحانه - واجتناب معاصيه، والحياء منه بحسب وقاره في القلب، فلا تستهن بحقه، ولا تجعله أهون الناظرين إليك، ولا تقدم حق المخلوق عليه، ولا تعط المخلوق في مخاطبته قلبك، وتعطي الله بدنك ولسانك دون قلبك وروحك، ولا تجعل مراد نفسك مقدماً على مراد ربك، فهذا كله من عدم وقار الله في القلب، ومن كان كذلك فإن الله لا يلقي له في قلوب الناس وقاراً ولا هيبة بل يسقط وقاره وهيبته من قلوبهم، وإن وقروه مخافة شره فذاك وقار بغض لا وقار حب، وتعظيم.

ومن وقار الله أن يستحي العبد من إطلاعه على سره، وضميره فيرى فيه ما يكره، ومن وقاره كذلك أن يستحي منه في الخلوة أعظم مما يستحي من أكابر الناس.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply