بسم الله الرحمن الرحيم
تحظى دراسة الجهود والحركات الإسلامية والإصلاحية الحديثة بأهمية كبرى في هذه المرحلة ربما تفوق أي مرحلة سابقة فقد حدثت تحولات وأحداث مهمة تبدت فيها أولويات واحتياجات جديدة غيّرت كثيراً من واجبات الحركات والجهود الإصلاحية، وتظهر الدراسة أيضاً كثيراً من الإنجازات والمكاسب التي تحققت، والتي يجب إدراكها ومراجعة العمل في مجالها لتوجيه الجهود والموارد نحو ما لم يتحقق بعد، وبالطبع فإن ثمة تحديات وعيوباً كثيرة رافقت العمل الإصلاحي يجب الالتفات إليها.
لقد خطت الأمة المسلمة منذ مطلع القرن الرابع عشر الهجري خطوات كبرى في مسار النهضة والإصلاح، وتحققت إنجازات مهمة، وهي \"الأمة المسلمة\" في أوائل القرن الخامس عشر تبدو أحسن حالاً بكثير منها قبل مائة سنة، وأمامها بالطبع أعمال أخرى كبيرة يجب إنجازها ومراحل كثيرة يجب تخطيها بسرعة أكبر، وتواجهها مخاطر وتحديات كبيرة تهددها وتضعفها.
وقد بدأ العمل الإصلاحي بمبادرات ومشروعات نهض بها مصلحون ومفكرون مثل محمد بن عبد الوهاب في الجزيرة العربية، وجمال الدين الأفغاني في مصر والدولة العثمانية، ومحمد عبده ورشيد رضا في مصر، وعبد الرحمن الكواكبي في الشام، ومحمد بلحسن بلحجوي وعلال الفاسي في المغرب، وعبد الحميد بن باديس ومالك بن نبي في الجزائر، والطاهر عاشور في تونس، أو في حركات تحرر من الاستعمار تمزج بين الصوفية والجهاد مثل السنوسية في ليبيا والمهدية في السودان والمريدين في القفقاس، والنورسية في تركيا.
ثم استوعبت هذا التراث الإصلاحي والنهضوي حركات إسلامية منظمة وشعبية مثل الإخوان المسلمين بقيادة حسن البنا تلميذ رشيد رضا، والجماعة الإسلامية في القارة الهندية، والحركة الإسلامية الشيعية في إيران.
وتطور مشهد العمل الإسلامي اليوم إلى خريطة معقدة وشاملة تشمل دولاً قامت على أساس حركات وأفكار إسلامية أو متأثرة بها، وتجارب ومحاولات للحكم والمشاركة السياسية مثل حزب الرفاه في تركيا والجبهة الإسلامية وحركة مجتمع السلم وحركة الإصلاح في الجزائر، والحركة الإسلامية في اليمن والأردن، وحركات مقاومة للاحتلال، وأحزاباً سياسية تشارك في الحكم والحياة السياسية والعامة، ومؤسسات إسلامية كالمنظمات الدولية والإقليمية والجامعات والبنوك والشركات ومنظمات الإغاثة ومراكز الدراسات والصحف والمجلات ومحطات الإذاعة والتلفاز.
وكان من أهم خصائص المشهد الجديد انتقال مسؤولية الجهود الإصلاحية من الرواد أو الحركات المنظمة إلى حالة مجتمعية تنهض بها شبكة من الحكومات والمؤسسات والجماعات والأفراد، ويقتضي هذا التحول إعادة النظر والتفكير في مسارات العمل الإصلاحي لتناسب المشهد الجديد وأولوياته واحتياجاته وتحدياته وفرصه.
فالحديث عن الإصلاح إنما هو عن دور الأمة، وهو دور لا تغني عنه أعمال جزء من الأمة كالجماعات والحركات والحكومات والمؤسسات، ولكننا نعني مجموع الأمة التي تشكل فيها المؤسسات والأفراد جزءاً من شبكة العمل والإصلاح والتنمية، فالمطلوب ليس فقط أن تبادر المؤسسات المختلفة إلى العمل والبرامج ولكن المطلوب أن ننقل الأمة المسلمة بمجموعها إلى حالة جديدة من الفاعلية الحضارية والاجتماعية، ومعيار نجاح عمل الجماعات والحكومات والمؤسسات والأفراد هو بمقدار نجاحها في التأثير في الأمة ومساعدتها على النهضة والتغيير، وأن تتكامل أعمال ومواقف جميع الأطراف من أفراد وحكومات ومؤسسات أهلية ومجتمعية بحيث تتحقق شبكة من الإصلاح والعمل النهضوي، ولا تكون هذه الجهود مشتتة متعارضة متباعدة، فقد يكون مجموع الأعمال صفراً أو قيمة سالبة، وقد يكون مساوياً لمجموعها، ولكنه يمكن أن يكون أضعافاً مضاعفة وكأنه حاصل ضرب وليس جمعاًº لأن الأعمال والمشروعات يمكن أن تتفاعل وتحقق متوالية كبيرة من الإنتاج، وقد تؤدي- وهذا هو الجانب المخيف- إلى متوالية عكسية سالبة من التناقض والتدمير (وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً(. ولذلك فإن محاولة التفكير والدراسة في هذا المجال يجب أن توضح مطلبين أساسيين:
ما الحالة التي نسعى إليها ونريدها؟ وكيف تشبك الأعمال والأدوار \"تجعل في شبكة\" تجعلها أكثر فاعلية واقتداراً وتضاعف آثارها الإيجابية ونتائجها الطيبة.
إنه ليس ممكناً ولا هو مطلوب أن تنهض فئة قليلة من الأمة تعمل وحدها، وتتحمل أعباء النهضة والدعوة، في حين يقف المجموع الباقي يراقب وينظر، أو يحارب ويعوق، ولكن المطلوب تأهيل الأمة المسلمة لتحقق شروط النهضة والإصلاح وتكون قادرة على أداء دور الشهود الحضاري المطلوب منها.
وقد حدثت تحولات كبيرة ومهمة أثرت في وجهة الحضارات والمجتمعات وغيّرت من الموارد والعلاقات مثل المعلوماتية والاتصالات وتداعياتها على الدول والمجتمعات والتعليم والعلاقات الدولية والاقتصادية والاجتماعية، وكانت هذه التغيرات على درجة كبيرة من الأهمية والتأثير تستدعي فكراً جديداً ودراسات جديدة للإحاطة بمتطلباتها وتحدياتها وفرصها وفهم البيئة الجدية المحيطة بالعمل الإصلاحي والعام ومدخلاته المتغيرة والكثيرة، وقد شغلت مؤسسات ومراكز بحثية كثيرة جداً بفهم وتقدير هذه التحوّلات والظواهر الجديدة كالعولمة على الدول والاقتصاد والقوى العالمية وإستراتيجياتها، ولكني لا أعلم عن دراسات ومؤتمرات لفهم وتقدير اتجاهات وآفاق الدعوة الإسلامية في عصر المعلوماتية والعولمة.
هذه التغيرات المهمة والمؤثرة تعيد صياغة المجتمعات والدول على أسس جديدة، وهي تحوّلات تقتضي إعادة تكييف دور الأمة والمؤسسات والأفراد، واختبار الفرص والتحديات الجديدة.
إن امتداد العمل الإصلاحي إلى العمل السياسي جعل الحركة الإسلامية الواحدة تشتغل بالمشاركة السياسية والنيابية والعمل النقابي والدعوي والخيري، وهذا أدّى إلى فساد واستبداد واحتكار للعمل العام وصدام مع الحكومات بدلاً من التنسيق وضياع الجهود وتكراراها، وتوظيف للعمل العام لأغراض ومصالح حزبية وشخصية، وأفقد الحركة الإسلامية مصداقيتها ونزاهتها.
فالانتشار الإسلامي يجب أن يكون مصحوباً بالامتداد الأفقي للأمة والمجتمعات بأسرها حتى لا يرهن العمل الإسلامي لصراعات ومصالح ورؤى صغيرة، وأن يتحول العمل من تنظيمات وجماعات إلى أمة ومجتمعات.
والحركة الإسلامية مدعوة لمبادرة ذاتية تقوم بها بنفسها قائمة على شبكية العمل الإسلامي وليس هرميته، ومجتمعيّته وليس تنظيميّته، فتجري انسحاباً لمشاركة غيرها وفصلاً تاماً وحقيقياً في القيادة والعمل بين العمل السياسي الحزبي وبين العمل النقابي والخيري والعمل الدعوي، ولا يعقل أن تقع قيادات الحركة الإسلامية فيما يفترض أن تكافح من أجل محاربته من احتكار وسيطرة، فترى القائد قائداً في العمل الخيري والدعوي والسياسي
والنيابي.
وقادة الحركة الإسلامية بسلوكهم هذا لا يقعون في زلل الاستبداد والاحتكار فقط، ولكنهم أيضاً يجعلون الحركة الإسلامية هدفاً معزولاً يسهل إصابته وتصفيته، ويجعلون مغانمهم الشخصية قضية الأمة أو قضية إسلامية ينتظرون من الناس أن يؤيدوهم بها، ويسهّلون على الحكومات ضرب العمل الإسلامي تحت غطاء محاربة التجاوزات القانونية والسياسية.
إن هذا الفصل الإجرائي في التطبيق، والذي يبدأ بالفصل بين المجالات المختلفة للعمل من سياسي ونقابي وخيري ومؤسسي وحكومي يحول ملكية العمل الإسلامي وخبراته وتجاربه إلى المجتمع بأسره أو أكبر قدر ممكن منه، ويقلل من عقلية الاحتكار والوصاية وعدم الثقة بالآخرين، ويحمي الحركة الإسلامية من العزلة، ويجعل الحالة الإسلامية أكثر تجذراً وانتشاراً في المجتمع، وليست مسألة تخص تنظيماً أو جماعة بعينها.
فمسؤولية العمل والدعوة والإصلاح منوطة بكل مسلم بل جميع المواطنين حتى غير المسلمين منهم، وليست حكراً على أفراد أو فئة من الناس، ووظيفة الحركة الإسلامية أن تحشد جميع الناس والفئات في مشروعها الإصلاحي وليس منافستهم المغانم والمواقع والفرص، وكلما تراجعت المصالح الذاتية والتنظيمية تزيد المصداقية والقبول.
وأدّت التحوّلات الكبيرة في المجتمعات ودور الدولة والنمو الكبير للصحوة الإسلامية إلى أولويات ومجالات جديدة للعمل الإسلامي قد يكون تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة وتقرير التنمية الإنسانية العربية من مؤشرات اتجاهاتها، مثل تحريك الدوافع الثقافية والخبرات المجتمعية في التنمية والنهوض وإعادة تنظيم المجتمعات والمؤسسات باتجاه تحقيق الاحتياجات الأساسية كالعدل والمساواة والأمن والغذاء السليم والدواء والمأوى والتعليم المستمر والانتماء والمشاركة بأقل التكاليف الممكنة وبأفضل مستوى، والتعامل الصحيح مع مرحلة الخصخصة وتغير دور الدولة وربما مفهومها، وهذا يجب أن يدفع العمل الإصلاحي إلى أوعية جديدة وأولويات تتفق مع هذه المتغيرات والاحتياجات، وكما كانت الحركات الإصلاحية مرتبطة بمقاومة الاحتلال والتحرر والاستقلال انسجاماً مع أولويات المرحلة فإنها في هذه المرحلة مدعوة إلى بذل الجهد والاهتمام بالتنمية الإنسانية والاحتياجات الأساسية، وبخاصة أنها أعمال وبرامج وأولويات تتفق مع خبراتها وإمكاناتها.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد