بسم الله الرحمن الرحيم
أعظم منة من الله - تبارك وتعالى - على العبد هي: أن يهيئ له الأسباب، ليكون من حملة هذا الدين، وممن يبذلون الغالي والنفيس، لإقامة حكم الله في الأرض، وتكون كلمة الله هي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، تلك المنزلة التي هي أشرف المنازل، وأعلى المقامات، منزل المرسلين وسبيلهم، عليهم أفضل الصلاة والسلام.
ولاشك أن الداعية إلى الله - تعالى - هو صفوة الله وخيرته من خلقه، أحب لله فهو أحب أهل الأرض إلى الله، وأجاب دعوة الله ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه، فعمله أفضل الأعمال وأزكاها، وكلامه أعذب الكلام وأطيبه، لأن كلمة الدعوة هي أحسن كلمة تقال في الأرض وتصعد في مقدمة الكلم الطيب إلى السماء، وقد ذكر ربنا ذلك في أوجز عبارة وأصدق بيان: (ومَن أَحسَنُ قَولاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ وعَمِلَ صَالِحاً وقَالَ إنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ) [فصلت: 33].
قال الحسن البصر - يرحمه الله - بعد تلاوة هذه الآية: (هذا حبيب الله، هذا وليّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحاً في إجابته، وقال: (إنَّنِي مِنَ المُسلِمِينَ) [1] ).
ولأن الأمر بهذه المنزلة وبهذا السموº فإنه لابد لأي داعية يريد وجه الله والدار الآخرة أن تتضح عنده أمور، حتى يكون المسار سليماً، والعمل مثمراً، ومن هذه الأمور ما يلي: أولاً - سلامة القصد والغاية: فمقصود الداعية وغايته: إعلاء كلمة الله، وتحكيم شريعة الله في الأرض، وليس لشخصه ولا لقومه، أو جنسه، أو عشيرته، أو قبيلته، حظُّ في ذلك ولا نصيب، وإنما الأمر لله، والعمل من أجل الله، ولهذا نلحظ في كتاب الله التركيز على هذا الأمر.
(قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلَى اللَّهِ) [يوسف: 108]، (ومَن أَحسَنُ قَولاً مِّمَّن دَعَا إلَى اللَّهِ) [فصلت: 33]، (ادعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ) [النحل: 125].
إنها دعوة إلى الله وإلى سبيل الله فحسب، دعوة تبيِّن للبشرية غاية خلقهم، وتعرفهم بربهم وخالقهم ورازقهم، وتبين لهم كيف يكون الإنسان شريفاً بعبوديته لله، وكيف يكون ذليلاً عندما يكون عبداً لغير الله، تبين لهم كيف تكون الحرية والسؤدد والرفعة والمجد عندما يتحاكمون إلى شرع الله، وكيف يكون الكبت والذل والصغار عندما يرضون بحكم الجاهلية، وقوانين البشر، وتخرصات أهل الزيغ والضلال، من الفلاسفة والعقلانيين والوضعيين وغيرهم.
ثانياً - سلامة الوصول والطريق الموصل إلى الغاية: وطريق الداعية إلى الله ووسيلته هي طريق المصطفى - صلى الله عليه وسلم - ووسيلته، فإنه أمر الخلق بكل ما أمر الله به، ونهاهم عن كل ما نهى الله عنه، أمرهم بكل خير ونهاهم عن كل شر، ولم يأمر بشيء من عنده ولا نهى عن شيء من تلقاء نفسه، بل كل دعوته بإذن الله، ولم يشرع ديناً لم يأذن به الله، كما قال - عز وجل -: (يَا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ إنَّا أَرسَلنَاكَ شَاهِداً ومُبَشِّراً ونَذِيراً) [الأحزاب: 45، 46]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله -: (فالله أمر رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالدعوة إلى الله تارة، وتارة بالدعوة إلى سبيله، كما قال - تعالى -: (ادعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ)، وذلك أنه قد علم أن الداعي الذي يدعو غيره إلى أمر، لابد فيما يدعو إليه من أمرين: أحدهما: المقصود المراد.
والثاني: الوسيلة والطريق الموصل إلى المقصود، فلهذا يذكر الدعوة تارة إلى الله، وتارة إلى سبيله، فإنه - سبحانه - هو المعبود المراد المقصود بالدعوة) [2].
ثالثاً - البصيرة في الدعوة: لكي يحقق الداعية الغاية والمقصود، ويسلم سبيله في الدعوة من الالتواءات والانحرافات، ولكي يسلك سبيل الله ويدع السبل المتفرقة، فلابد من العلم والبصيرة في الدعوة إلى الله - تعالى -: (قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ).
والبصيرة هي العلم، علم بالله وبسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، علم يجعل صاحبه وقافاً عند حدود الله، طالباً للحق مذعناً له متى ظهر وإن خالف هواه، علم يجلو القلوب من أصدائها ويزرع فيها تقوى الله وخشيته وحب الله وحب رسوله، وحب عباده المؤمنين وحب العمل الذي يقرب إلى حب الله ورسوله.
رابعاً - الفقه في الدعوة إلى الله:
1- معرفة أحوال المخاطبين والمدعوين، فإن معرفة أحوالهم مما يعين على اختيار الطريق المناسب، ووضع الأمور في مواضعها، قال - تعالى -: (ادعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ والمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ)º قال ابن القيم- رحمه الله تعالى - حول هذه الآية: (ذكر - سبحانه - مراتب الدعوة، وجعلها ثلاثة أقسام، بحسب حال المدعو، فإنه إما أن يكون طالباً للحق، محباً له، مؤثراً له على غيره إذا عرفه، فهذا يدعى بالحكمة، ولا يحتاج إلى موعظة وجدال، وإما أن يكون مشتغلاً بضد الحق، لكن لو عرفه آثره واتبعه، فهذا يحتاج إلى الموعظة بالترغيب والترهيب، وإما أن يكون معانداً معارضاً فهذا يجادل بالتي هي أحسن، فإن رجع وإلا انتقل معه إلى الجِلاد إن أمكن) [3].
فإذن في الناس من تكون الحكمة أبلغ في دعوته من سواها، والحكمة شأنها عظيم، وقد جاءت في الآية السابقة مستقلة واضحة كالشمس لا تحتاج إلى مزيد بيان وتوضيح، بخلال الموعظة والجدال، فقد جاءا موصوفين، الموعظة بأنها الموعظة الحسنة، والجدال بأنه بالتي هي أحسن، ومن المهم أن نعرف أن الشدة في بعض الأمور ولبعض الناس هي من الحكمة، وفى الحكمة سر عظيم، وخير عميم، (ومَن يُؤتَ الحِكمَةَ فَقَد أُوتِيَ خَيراً كَثِيراً).
وبعض الدعاة يبالغ في اصطياد الحكمة، فيذهب الوقت عليه بين مد وجزر، حتى يفلت الأمر من يده قبل أن يبلغ الحكمة أو يقرب منها، وبعضهم يأخذه الحماس والغيرة والاندفاع، فيتجاوز الحكمة بمسافات بعيدة.
وفى الناس من تدخل قلوبهم الموعظة الحسنة، وتأسر مشاعرهم وتتعمق فيها بلطف، ولكن يجب أن تكون حسنة في ألفاظها وفى معانيها، تجعل القلوب تتوق وتتشوق إلى ما عند الله، فتنقاد إلى سبيل المؤمنين لتفوز بالجنة، كما يجب وهى تحذر من عواقب العصيان، وسوء منقلبه، أن تكون حسنة، لا فجاجة فيها ولا غلظة، ولا تقبيح فيها ولا تأنيب في غير موجب، فتعود القلوب الشاردة وتحيا القلوب المريضة بالموعظة الحسنة.
وفيهم من يأسرهم الجدال، عندما يكون الجدال بالتي هي أحسن - بصيغة التفضيل أحسن - لأن الأمر خطير وحساس، يقول سيد قطب - رحمه الله -: (فالنفس البشرية لها كبرياؤها وعنادها، وهي لا تنزل عن الرأي الذي تدافع عنه إلا بالرفق، حتى لا تشعر بالهزيمة، وسرعان ما تختلط على النفس قيمة الرأي وقيمتها عند الناس، فتعتبر التنازل عن الرأي تنازلاً عن هيبتها واحترامها وكيانها، والجدل بالحسنى هو الذي يطامن من هذه الكبرياء الحساسة، ويشعر المجادل أن ذاته مصونة، وقيمته كريمة، وأن الداعي لا يقصد إلا كشف الحقيقة في ذاتها، والاهتداء إليها في سبيل الله، لا في سبيل ذاته، ونصرة رأيه، وهزيمة الرأي الآخر) [4].
2 - أن يكون عنوان الداعية هو: طلب الحق، فإن وفق إليه لزمه وانتصر له، وإن تبين له مجانبة الصواب في أي مسألة من مسائل الشرع، أو أي أسلوب أو منهج، قبِل النصح وعاد إلى الصواب، مرتاح البال مطمئن الضمير، فإن الأمر لله ولرسوله - صلى الله عليه وسلم -، (ومَا كَانَ لِمُؤمِنٍ, ولا مُؤمِنَةٍ, إذَا قَضَى اللَّهُ ورَسُولُهُ أَمراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِن أَمرِهِم) [الأحزاب: 136]، ولاشك أن الأمر عزيز المنال، وأن الإذعان للحق مرتقى لا يرتقيه كل الناس، ولكن أهل التقوى والإخلاص - وهم قلة - يرتقون هذا المرتقى، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.
3-أن يعترف الداعية لأهل الفضل بفضلهم، وأن لا يبخس الناس حقوقهم، وأن لا يتعدى بأي هفوة أو زلة حجمها وقدرها الذي يجب أن لا تتعداه، وأن يحذر تتبع العثرات والزلات، عند العلماء والدعاة، ومن ذا الذي ترضي سجاياه كلها كفى المرء نُبلاً أن تعد معايبه.
4 -أن يكون الداعية على علم بواقعه المعاصر، وعلى دراية بحجم الجاهلية وقوتها وتبجحها واستهتارها، وأن يدرك المكر الذي يمكره أعداء الله ليلاً ونهاراً، لإخماد أي جذوة أو بصيص من نور تظهر في أي بقعة من العالم لإعلاء كلمة الله.
5-أن يكون صريحاً في كلامه، واضحاً في منهجه وسلوكه، متميزاً عن الجاهلية، معتزاً بدينه، مترفعاً عن أن يساوم بشىء من دينه، مستقلاً تماماً عن أنظمة الجاهلية، معرضاً عن الأنظمة المشبوهة، منتمياً لأولياء الله، موالياً للمسلمين، متبرئاً من المشركين، يقول بملء فيه: (إنني من المسلمين)، ويقول: (سُبحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ)، وما أحسن كلام سيد - رحمه الله - حول قول الله - تعالى -: (قُل هَذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي)، يقول: (وأصحاب الدعوة إلى الله لابد لهم من هذا التميز، لابد لهم أن يعلنوا أنهم أمة وحدهم، يفترقون عمّن لا يعتقد عقيدتهم، ولا يسلك مسلكهم، ولا يدين لقيادتهم، ويتميزون ولا يختلطون! ولا يكفي أن يدعو أصحاب هذا الدين إلى دينهم وهم متميعون في المجتمع الجاهلي، فهذه الدعوة لا تؤدي شيئا ذا قيمة.
ثم يقول: والذين يظنون أنهم يصلون إلى شيء عن طريق التميع في المجتمع الجاهلي، والأوضاع الجاهلية، والتدسس الناعم من خلال تلك المجتمعات، ومن خلال هذه الأوضاع، بالدعوة إلى الإسلام، هؤلاء لا يدركون طبيعة هذه العقيدة، ولا كيف ينبغي أن تطرق القلوب! إن أصحاب المذاهب الإلحادية أنفسهم يكشفون عن عنوانهم وواجهتهم ووجهتهم! أفلا يعلن أصحاب الدعوة إلى الإسلام عن عنوانهم الخاص؟ وطريقهم الخاص؟ وسبيلهم التي تفترق تماماً عن سبيل الجاهلية؟)[5].
وبعد: أخي الداعية، لعل هذه الأمور لا تخفى عليك، ولكنها الذكرى عسى أن تقابل لحظة قبول، فتنتفع بها القلوب المؤمنة، هذا الذي نرجوه من الله، والحمد لله أولاً وآخراً.
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن كثير، المجلد الرابع، ص152.
(2) الفتاوى15/162.
(3) فتح المجيد شرح كتاب التوحيد.
(4) في ظلال القرآن4/2202.
(5) في ظلال القرآن4/2034.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد