بسم الله الرحمن الرحيم
كم هو جميل الجلوس بين يدي العلماء العاملين والفقهاء المحققين، وكم تزدحم الأسئلة والاستفسارات وتجول في الذهن والخاطر حينما تجلس بقرب عالم محقق تجد أنه جدير بأن يجيبك على جميع ما يدور في ذهنك وخلدك، هذا ما لمسناه ووجدناه عندما التقينا وحاورنا الأستاذ الفاضل الدكتور وهبة مصطفى الزحيلي في جامع العثمان بدمشق الشام، حتى تذكرنا بقول الله تبارك وتعالى: {يَرفعِ اللَّهُ الَّذِذينَ آمَنُوا مِنكُم وَالَّذِينَ أُوتُوا العِلمَ دَرَجاتٍ,} ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين))...
*وكنا قد سألناه أولاً عن توجه العلماء في سابق العهد بأنهم حينما ينهون دراستهم الجامعية يتوجهون إلى الأزهر الشريف، لماذا هذا التوجه برأيك؟ وهل أن العلم انحصر في الأزهر؟ فقال مجيباً:
- العلم لا ينحصر في الأزهر ولا في غيره من المؤسسات والجامعات في البلاد العربية والإسلامية وإنما باعتبار أن الأزهر من أقدم الجامعات الإسلامية ويتوافر فيه كثرة من العلماء المتخصصين وفيه مجالات متعددة للدراسة وتيسير الأمور فيه أكثر من غيره فيقبل الناس على الأزهر الشريف لتحقيق أهدافهم ونيل العلوم من علمائه وهذا السبب في اتجاه الناس نحو مصر والأزهر.
* في إطار التحقيق العلمي يمتاز أسلوبكم بقوة العبارة وسرعة الإشارة من أين جاءكم هذا الأسلوب؟
- حينما كنت طالباً كنت أحس بصعوبة شديدة في فهم مختلف العلوم الإسلامية في إطار العقيدة أو التفسير أو الحديث أو الفقه أو في غير ذلك من العلوم فعاهدت نفسي أن أذلل المشكلات العلمية أمام الطلاب ومتوسطي الثقافة وعكفت على هذا وبذلت كل جهد ممكن بالإضافة إلى ما كونت به نفسي من اطلاع واسع واختيار العبارات الملائمة وأيضاً الممارسة العلمية للتدريس في الجامعة وغيرها كل ذلك جعلني اتجه إلى هذا النوع من الأسلوب الذي ولله الحمد يتقبله الناس ولاسيما ونحن في عصر السرعة وفي المجال الذي لم يعد هناك إمكان لترك الناس يتيهون في خضم المعلومات والتأملات وغير ذلك ووفقني الله لهذا النوع من الأسلوب.
* عملتم في الدعوة إلى الله سنين عديدة ما هي صفات الداعية الناجح في نظركم؟
- الداعية الناجح يجب أن تتوفر فيه أولاً الأسوة الحسنة والقدوة الطيبة في الالتزام بأحكام شرع الله ودينه وفي صلته الوثقى بالله - سبحانه وتعالى - في محبة النبي الأعظم وفي سنته وسيرته الشريفة هذا أول شرط في نجاح الداعية.
ثم في الأمر الثاني لابدَّ أن يكون للداعية نفسه تكويناً قوياً وأصيلاً ويطلع على الثقافات المختلفة سواء الإسلامية وغيرها ليخاطب الناس بأسلوب العصر.
ثالثاً - لابدَّ من الإخلاص في العمل لله جل جلاله وخصوصاً في مجال الدعوة لأن الكلام إذا خرج من القلب دخل إلى القلب وإذا كان تجارة بلسان لا يتجاوز الأذان فالإخلاص بالعمل شرط أساسياً لنجاح الداعية.
رابعاً - لابدَّ من الصبر على المهمة وتحمل المشاق فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والرسل العظام وبخاصة سيدنا محمد بن عبد الله - صلى الله عليه وسلم - يتعرضون لأنواع الأذى والمضايقة والتهديد بالقتل فما ثناهم ذلك كله عن متابعة مهامهم والقيام بواجباتهم حتى ظهر أمر الله وانتشر الدين بفضل هذه الجهود والتضحيات التي علمنا إياها الأنبياء الكرام هذا أهم العناصر التي ينبغي أن ينتصر بها الداعية.
* في إطار الصحوة الإسلامية اليوم هل يرى العلامة الزحيلي أن الصحوة الإسلامية تسير على الطريق المستقيم الذي رسمه الشرع الحنيف مع شدة الصراع بين الأديان والحضارات خاصة وأن الإسلام يتعرض لهجمة شرسة؟
- لاشك أن الصحوة الإسلامية ظاهرة طيبة في الثلاثين السنة الأخيرة وتعد حركة مباركة، ولكن هذه الصحوة تحتاج إلى ترشيد وإلى توجيه وإلى الالتزام بأقوال العلماء وقبول النصح منهم فتولى الصحوة الإسلامية مع الأسف الشديد أناس يقتصر جهدهم على مجرد العاطفة الإسلامية وإذكائها في النفوس والحماس ودفع الناس إلى العمل بالإسلام دون أن يسلح الناس بالعلوم والمعارف التي يستفيدون منها وفي خارج الدروس والمحاضرات والمواعظ والخطب، فلذلك هذه الدعوة أو هذه الصحوة أصيبت بانتكاسة شديدة ولاسيما الدول التي ظهرت فيها تعرضوا لها بالبطش والثأر والسجن والقتل وغير ذلك من ألوان الصد عن دعوتهم، فلابدَّ من أن نعيد حساباتنا ونضع خطة استراتيجية ومناسبة للعمل في ضوء الظروف التي نعيشها كل ذلك يجعلنا من الضروري أن نفكر نحن العلماء تفكيراً جدياً في توجيه الصحوة توجيهاً مباركاً وخصوصاً أن التحديات كثيرة والظروف قاسية والاتهامات متعددة، فلابدَّ أن نقابل ذلك بمستوى علمي رصين وبكفاءة عالية لنقف أمام هذا التيار الخطير الذي يواجه الإسلام لأن الأعداء عندهم إمكانات ضخمة ونحن مع الأسف الشديد لا توجد لنا مؤازرة من حكوماتنا ودولنا فبقي الجهد فردياً ومتروكاً لبعض المؤسسات والجمعيات وهذا ينقصه كثير من الجهود ومن الدعم والمؤازرة المادية والمعنوية حتى ننجح في هذا السبيل، على العكس مما يجد أولئك المبشرون دعماً قوياً من حكوماتهم ولذلك يحاولون تنصير الناس في إفريقية وفي جنوب شرق آسية وغير ذلك، ونحن لا نجد عون إلا من الله - سبحانه وتعالى -، والقضية تحتاج إلى دراسة وتفكير وتخطيط ووعي وأن نكون على مستوى الأحداث لا أن نعيش في جانب التاريخ وننسى ظروف العصر.
* هل الإسلام ملاذ لكل الجماعات الإسلامية من خلال نظرتكم العلمية؟
- الإسلام هو الأمل الوحيد وهو طريق الإنقاذ والنجاة أمام جميع العالم وبخاصة المسلمين فلا طريق لحل المشكلات التي نتعرض لها والهجمات الحالكة والمضايقات والتعدي على حقوقنا وبلادنا وأراضينا ومحاولة تدمير وجودنا وعقائدنا ومقدساتنا والأصل في مناهجنا ودراستنا كل ذلك لابدَّ أن نقف وقفة مناسبة لمثل هذه الأوضاع وأن يكون حصادنا أفضل مما قمنا به في الماضي.
* التكتلات والجماعات الإسلامية ظاهرة انتشرت في العراق، ما هو رأيكم في ذلك؟
- هذه التكتلات لابدَّ لكي تنجح أن ينظم بعضها إلى بعض وأن يتعاونوا من أجل خط واحد وهو مقاومة الأعداء والغاصبين والمحتلين لأنه - سبحانه وتعالى - أمرنا دائماً بالعمل الجماعي، وأما العمل الفردي فهو أشبه بقول النبي محمد - صلى الله عليه وسلم -: ((يد الله مع الجماعة وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية)) وهذه الجماعات يجب أن يتناسى زعمائها حظوظهم وأهوائهم وتكتلاتهم وأن يعملوا أولاً في خط واحد وفي خندق واحد، وأن يكون بينهم جسر للتعاون والتضامن ليكونوا قوة واحدة أما الأعداء.
* كتابكم الفقه الإسلامي وأدلته موسوعة الفقه في العصر الحديث التي نالت إعجاب كل الناس أين هذه الموسوعة من قلب العلامة الزحيلي، وما هي الطريقة التي اتبعتها في تأليفه؟
- هذه الموسوعة ولله الحمد التي طبع منها إلى الآن أكثر من (25) طبعة في البلاد عدا المطبوع منها في اللغات الأجنبية، فطبع مثلاً ترجمتها في تركية ووزعوا منها في بعض السنوات دفعة واحدة مجاناً (350.000) نسخة لكل أنحاء تركية للمشتركين في جريدة الزمان وجاءهم كما قالوا لي بالحرف الواحد جاءنا ببركة هذا الكتاب الموضوعي والحيادي والمتجرد والذي أخفيت فيه كل حظوظ النفس وعملت بإخلاص في السحر وفي كل الأوقات أن ينال القبول من المسلمين، وتحقق هذا الأمل ولله الحمد واستفاد منه الكثيرون ولم أدخل بلداً إلا ويقابلني الكثيرون بأنهم تلاميذ لي من طريق هذا الكتاب وكنت أشعر بالراحة العظمى وبالفضل الكبير حينما يقول الواحد منهم جزاك الله عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء، فاعتقد أن هذا الكتاب استطاع أن يقتلع من أذهان الناس أن الفقه الإسلامي وأن الشريعة الإسلامية غير صالحين للتطبيق في الزمان والمكان، فأسلوبه الواضح وحيادته واعتماده على الدليل ومعاصرته للأحداث كل ذلك اكسب هذا الكتاب قبولاً ولله الحمد، يجد كل إنسان فهي ضالته لاسيما في فهرسته الألف البائية في آخر الأجزاء. فهذا الكتاب لاشك أنه يحتل محل القيمة العليا في نفسي هو وكتابي (التفسير المنير) ولله الحمد، هذان كتابان كما يقول الكثيرون: كتاب الفقه الإسلامي هو المغني في كل بيت، وأيضاً كتابي التفسير المنير الذي حصلت عليه جائزة لأفضل كتاب في العالم الإسلامي عام 1995 من إيران في عهد الرئيس رفنسجاني. هذان الكتابان إن وجدا في كل بيت يكاد يغنيان أهل البيت عن أي شيء يريدونه للتعرف على معالم الإسلام وأفكاره وتوجهاته وأحكام شرائعه وصلة المسلم بكتاب الله وبهذا الفقه المستمد من المصادر الشرعية المعتمدة في هذه الشريعة.
* ما هي آخر إنتاجاتكم العلمية؟
- الحمد لله كتبي كثيرة وصلت إلى أكثر من (55) مؤلفاً والبحوث المقدمة للمؤتمرات الدولية أكثر من (130) بحثاً والمقالات والبحوث المنشورة في المجلات أكثر من (350) فبلغ المجموع أكثر من (500) آخرها صدر لي (المعاملات المالية المعاصرة) لأن أكثر الناس لا يعرفون حكم هذه المعاملات لأنه كما قلت لكم لابدَّ أن نعيش عصرنا وأن نبين للناس أحكام التعامل مع البنوك الإسلامية وغيرها. أيضاً صدر لي كتاب (فتاوى معاصرة) وصدر لي كتاب أخيراً (أخلاق المسلم) طبع منه جزءان الجزء الأول علاقة الإنسان بالخالق والجزء الثاني علاقة الإنسان بالمجتمع والجزء الثالث يطبع الآن علاقة الإنسان بالكون وبالنفس الإنسانية، فهذه الكتب إن شاء الله سددت فراغاً وحققت مطامح الكثير من الشبان في التعرف على أشياء وأخلاق وآداب الإسلام وأصول الإسلام.
* ماذا توصي العراقيين في هذه المرحلة؟
- العراق يحز وطأها في نفسي ويكاد السيف يقطع كبدي وقلبي ويدمي نفسي لأننا وقعنا في مأساة أخرى مأساة في الشق وهي العراق ومأساة في الوسط وهي فلسطين ومأساة سابقة وهي ضياع الأندلس. فالعراقيون الآن أنا أحيي جهودهم وكفاحهم وأدعو الله لهم بأن يسدد خطاهم وأن ينصرهم على أعدائهم، صحيح أن كل عمل في الدفاع عن الأوطان والحرمات والمقدسات يتطلب تضحيات جسيمة من قتلى وأموال وغير ذلك، لكن أقول أن موقف العراقيين موقف مشرف كموقف إخواننا في فلسطين موقف عزيز وكريم وشريف ولولا هذه المقاومة بعد فشل الجيوش العربية والإسلامية وفشل كل الأنظمة الرسمية لم يبق أمل في التعبير عن عزة المسلم إلا جهود المقاومة سواء في العراق أو في فلسطين أو في غيرهما، وهذا هو الذي أضاء للناس طريق النور وجعل الأمل قوياً في انتصاراتنا على أعدائنا بعد أن فشلت منظماتنا وجيوشنا ومؤسساتنا الرسمية.
* كيف نوظف الإعلام في خدمة الإسلام والمسلمين؟
- مما لا شك فيه أن الإعلام أصبح يعبر عنه بأنه السلطة الرابعة في كل الدول، وأصبح الإعلام منه الصحيح ومنه الكاذب بوجه سياسات الدول ويحتضنه رجال الأمن والمخابرات، فنحن بأشد الحاجة إلى أن يكون الإعلام إسلامي موحد وقناة فضائية واحدة وصحف ومجلات واحدة وأن يكون لنا صوت إسلامي متميز وقرار واحد في الأحداث حتى نعبر عن ثباتنا وتطلعاتنا أمام العالم الآخر لأن مشكلتنا الآن مشكلة التفرقة والتجزئة والتشرذم والشتات وأن الغربيين إلى الآن حينما يكون هناك جاليات في الغرب كما شكوا لي أنه يطالبون المسلمين بأن يعبروا عن رأي واحد فلا يتمكنوا من هذا التعبير فهذا مما يحز في النفوس ويؤسفنا أنه لا يوجد لنا قرار واحد ولا توجه واحد.
فالإعلام الإسلامي هو الكفيل بأن يوحد هذه الجهود ويوجهها توجيهاً صحيحاً وموحداً ليعبر عن حقيقة الإسلام وتطلعاته وصفاته ونقاءه دون أن يتعثر بهذه الاتهامات الباطلة التي يتورط بها بعض الشبان زاعمين أنهم ينشرون الإسلام وهم في هذا يهدمون قيم الإسلام وأحكام وشرفه وعزته وأصوله.
* في العراق انتشرت ظاهرة تعريف قوائم بأسماء العملاء والجواسيس وهي قوائم غير صحيحة في أحيان كثيرة وقد يكون فيها خلط ولبس مما يترتب عليه قتل بعضهم بلا ذنب، ما هو حكم الإسلام فيها؟
- الله - سبحانه وتعالى - يقول: {إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ,}. فينبغي أن نحذر الفتنة والعراق من قديم الزمان إلى الآن هو ميدان للفتن الكثيرة، يجب أن نأخذ درساً من الماضي ودرساً من الحاضر وخصوصاً أن بعض هذه القوائم كاذبة، فعلى الناس أن يحذروا مثل هذه الأخبار الملفقة والدعايات المغرضة وإيقاع الفتنة بين صفوف المسلمين فمثل هذا كله يعد إضعافاً للصف الإسلامي ومحاولة لتصفية جهود المسلمين وعرقلة مسيرتهم فكل ذلك ينبغي أن نأخذ منه الدروس والعبر وأن نعمل عملاً يعتمد على الفطنة والحكمة والإخلاص والأعراض عن هذه الأقاويل والإشاعات الباطلة والأخبار الملفقة والكاذبة فهذا هو شأن المسلم وهو من أصول هذا الدين.
* ما حكم القاتل والمقتول الذي هو بريء؟
هؤلاء القتلة لاشك أنهم مقصرون متورطون في هذه الأحداث وكل شيء يتم دون ودون عمل كما قلت لك بمضمون هذه الآية: {إِن جاءَكُم فاسِقٌ بِنَبَأٍ, فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوماً بِجَهالَةٍ,} لاشك أن من يتورط في هذه يكون مسؤولاً أمام الله - سبحانه - ومقصراً في الأخذ بالاحيتاطات اللازمة التي يطالبنا بها ديننا وشرعنا وأن لا يتورط بمجرد الإشاعات.
* وهل يقتص من القاتل؟
- لاشك شرعاً إذا أثبت أنه مقصر في البحث يقتص من القاتل لكن الذي يقتص ليس فئة أخرى لأنكم الآن في العراق لا يوجد نظام حكم واحد، الدولة هي التي تتولى هذا وليس الجماعات يقتض بعهم بعض وإلا وقعنا في فتنة جديدة.
* يعني إلى حين تكوين الدولة الجديدة؟
- نعم إلى حين تكوين دولة نقية وجديدة وتتحمل المسؤولية يحق شرعاً فعلاً الاقتصاد من هؤلاء القتلة الذين تورطوا بقتل غير مشروع، ولاشك أن المقتول شهيد، لأنه بريء والمسؤول هو القاتل لأنه لم تثبت.
أ د:وهبة الزحيلي.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد