بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
العمل الإسلامي أو الإصلاحي، أو الدعوي، في كل زمان وفي كل مكان، يقوم على أصل كلي في الإسلام، وكليته استقرائية ترجع إلى عدد كثير من النصوص القرآنية والسنية. ومن هنا قلَّما تجد حركة إسلامية، سواء في التاريخ القديم أو المعاصر، إلا وهي ترجع إليه، وتؤصل لوجودها به، وذلك هو «أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، إلا أن النظر في تحقيق مناط هذا الأصل، في ظروف الزمان والمكان، يجعلنا ملزمين بضبط توقيعه بقواعد منهجية، مشهورة عند العلماء، إن لم يحترمها الداعية صار إلى عكس المآل الذي وُضِــع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أجله. وهي:
القاعدة الأولى: في أن (الدعوية) صفة لازمة عن الإسلامية:
وهي قاعدة مبدئيةº ولذلك فإننا ننطلق ابتداء من المقولة التالية: «أنت مسلم إذن أنت داعية».
وبيان ذلك كما يلي:
ألست مسلماً؟ إن كنت كذلك حقاًº فقد تعلقت بك أهم صفات ما انتسبت إليه من الإسلام: الرسالية. قال - صلى الله عليه وسلم - في أمر مطلق لكل الأمة: «بلِّغوا عني ولو آية»(1). ومن هنا كان المجتمع الإسلامي حركة دعوية بطبيعته، وجماعة إصلاحية بفطرته. إنه منذ أعلن أن محمداً رسول اللهº تقلد ـ بمقتضى عقيدة الاتباع ـ مهمة الدعوة إلى الله، فليس عبثاً أن يحض النبي - صلى الله عليه وسلم - ـ بكل وسائل التحريض والتشجيع ـ على الدعوة إلى الخير والهدى، كما في قوله: «فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم»(2).
ومن هنا شهادة الله بالخيرية لهذه الأمة، في قوله - تعالى -: {كُنتُم خَيرَ أُمَّةٍ, أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِوَتَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِاللّهِ} [آل عمران: 110]. إنها صفة عامة في كل من أسلم لله الواحد القهار. ومن هنا كان حديث تغيير المنكر دالاً على العموم، وليس له ما يقيده ـ في المأمورين به ـ إلا شرط الاستطاعة ورتبتهاº وذلك قوله - صلى الله عليه وسلم -: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان»(3). وقد بينا في كتيب (الفجور السياسي) مراتب التغيير، وطبيعة كل رتبة منها بما يغني عن تفصيله هنا، فكان أن بينا إلزامية ذلك على كل مسلم على قدر مرتبته من الاستطاعة(1). بل قد عزم النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذلك عزمة شديدة على المسلمº هي أن يتجرد للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كلما حضـره. قال - عليه الصلاة والسلام -: «إن الله - تعالى - ليسأل العبد يوم القيامةº حتى يسأله: ما منعك إذا رأيت المنكر أن تنكره؟ فإذا لقن الله العبد حجته قال: يا رب! رجوتك وفرقت من الناس»(2).
فالمسلم المستقيم لا يمكن إلا أن يكون داعية إلى الخير. تلك صفته فرداً، وجماعةº إذ الرابط الاجتماعي القائم على الشهادتين في الإسلام يقتضي ذلك بداهة. قال - عز وجل -: {وَالمُؤمِنُونَ وَالمُؤمِنَاتُ بَعضُهُم أَولِيَاء بَعضٍ, يَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُولَـئِكَ سَيَرحمهم الله إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 71]، فجاءت صفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المؤمنين، مقرونة بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله، وكل ذلك جاء نتيجة الموالاة في الله.
تلك صفتهم قبل التمكين في الأرض، وتلك صفتهم بعد التمكينº إذ الدعوة إلى الخير هي غاية ووسيلة في الوقت نفسه، تماماً كما تحدثنا عن الصلاة، فالمجتمع المسلم لا يقوم إلا بالدعوة إلى الله، قال - عز وجل -: {ادعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدِينَ [النحل: 125]. وإذا قام كان من أهم خصائصه الدعوة إلى الله، إلى جانب الصلاة والزكاة على سبيل التلازم، فتدبر قوله - تعالى -: {الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُم فِي الأَرضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالمَعرُوفِ وَنَهَوا عَنِ المُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} [الحج: 41]، ومن هنا رسم الله سبيل الرسول - صلى الله عليه وسلم - صراطاً مستقيماً، يتبعه عليه كل المسلمين، قوامه الدعوة إلى الله على بصيرةº وهي سبيل ثابتة لا تتغير ولا تتبدل، مستقرة كذلك أبداً، قال - تعالى -: {قُل هَـذِهِ سَبِيلِي أَدعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشرِكِينَ} [يوسف: 108].
فقوله - تعالى -: {هَـذِهِ سَبِيلِي} جملة اسمية دالة ـ كما هو معروف عند النحاة ـ على الثبات، وثباتها هو على ما جاء بعد لتفسير السياق: {أَدعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ, أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} الآية. وجاء تفسيرها جملة فعلية للدلالة على الحركة، وفي ذلك إشارة إلى ما ذكرناه من خصيصة الدعوة اللازمة للجماعة الإسلامية، قبل التمكين وبعده، وأنها صفة تابعة لإسلام المسلم متى تفاعل مع إسلامه واستقام عليه.
ومن هنا جاء أمر الدعوة والإصلاح مقروناً بالأمر بالصلاة، في غير ما آية من القرآن الكريمº وذلك على نحو ما في وصية لقمان الحكيم لابنه، في حكاية الله عنه من قوله - تعالى -: {يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأمُر بِالمَعرُوفِ وَانهَ عَنِ المُنكَرِ وَاصبِر عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِن عَزمِ الأُمُورِ} [لقمان: 17]، وقال ـ جل جلاله ـ في وصف جميل لمؤمني أهل الكتاب، تناسق فيه جمال تلاوة القرآن قياماً بالليل، مع جمال الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمسارعة في الخيرات: {لَيسُوا سَوَاء مِّن أَهلِ الكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيلِ وَهُم يَسجُدُونَ {113} يُؤمِنُونَ بِاللّهِ وَاليَومِ الآخِرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الخَيرَاتِ وَأُولَـئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ {114} وَمَا يَفعَلُوا مِن خَيرٍ, فَلَن يُكفَرُوهُ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالمُتَّقِينَ} [آل عمران: 113 - 115].
وجعل من سننه ـ - تعالى - ـ في الخلق أن كان أمنهم الوجودي والنفسي والاجتماعي مرتبطاً باستقامة أحوالهم، وذلك الثبات على الصلاة، والصبر عليها، وحفظ البيئة الدينية الموفرة لظروفهاº بالإصلاح والنهي عن الفساد. فإذا اختلت تلك الشروط اختل الأمن الوجودي للأمة، قال - تعالى - يعرض صورة شاملة لإحسان التدين: {وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيلِ إِنَّ الحَسَنَاتِ يُذهِبنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكرَى لِلذَّاكِرِينَ {114} وَاصبِر فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجرَ المُحسِنِينَ {115} فَلَولاَ كَانَ مِنَ القُرُونِ مِن قَبلِكُم أُولُوا بَقِيَّةٍ, يَنهَونَ عَنِ الفَسَادِ فِي الأَرضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّن أَنجَينَا مِنهُم وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُترِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجرِمِينَ {116} وَمَا كَانَ رَبٌّكَ لِيُهلِكَ القُرَى بِظُلمٍ, وَأَهلُهَا مُصلِحُونَ} [هود: 114 - 117].
القاعدة الثانية: في أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دعوة إلى الخير أولاً:
والخير كل الخير هو معرفة الله، فكل معروف إنما كان كذلك من حيث هو يؤدي إلى معرفة الله أو هو عين معرفة الله، وكل منكر إنما كان كذلك من حيث هو جهل بالله. فإذا اتفق أن كان أمر بمعروف ما ينتج عنه منكر أكبر منهº توجه حينئذ وجوب ترك الأمر بذلك المعروف. وكذلك إذا كان نهي عن منكر ما يؤدي إلى ما هو أفظع منهº توجه وجوب ترك ذلك النهي إلى حـين، كما قــرره الإمــام ابـن تيميــة - رحمه الله - في قوله: «وجماع ذلك داخل في القاعدة العامة: فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد، والحسنات والسيئات، أو تزاحمتº فإنه يجب ترجيح الراجح منها... فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة، فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثرº لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدته أكثر من مصلحته»(1). وربما كانت الوسائل المستعملة في ذلك سيئة، أو اختيار العبارات غير موفق، أو نحو ذلك من وسائل تحقيق المناط الفاشلة ابتداءº مما لم يراع فيه الزمان وأهله، فيؤدي إلى عكس النتائج المرجوة.
ومن هنا كانت الآية المشهورة على ألسنة الدعاة: {لتَكُن مِّنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ} [آل عمران: 104] من ألطف الإشارات إلى هذا المعنى العجيب الذي يجعل المرء يضع نصب عينيه تحقيق مفهوم (الخير) أولاً. فلا عبرة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إن تحقق الداعي من أنه يخطئ به الوصول إلى الخير. وإنما الخير ـ كما قلنا ـ هو التعريف بالله. هذا معنى عظيم من أسرار كتاب الله.
ولذلك فقد جاءت الآية في سياق امتنان الله على المؤمنين بنعمة الإسلام، والتأليف بين قلوبهم، وإنقاذهم من النار، وإرجاع الفضل في كل ذلك إلى الله. فاقرأ السياق كله وتدبر، ثم أنصت إلى قلبك: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مٌّسلِمُونَ {102} وَاعتَصِمُوا بِحَبلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُوا وَاذكُرُوا نِعمَةَ اللّهِ عَلَيكُم إِذ كُنتُم أَعدَاء فَأَلَّفَ بَينَ قُلُوبِكُم فَأَصبَحتُم بِنِعمَتِهِ إِخوَانًا وَكُنتُم عَلَىَ شَفَا حُفرَةٍ, مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُم آيَاتِهِ لَعَلَّكُم تَهتَدُونَ {103} وَلتَكُن مِّنكُم أُمَّةٌ يَدعُونَ إِلَى الخَيرِ وَيَأمُرُونَ بِالمَعرُوفِ وَيَنهَونَ عَنِ المُنكَرِ وَأُولَـئِكَ هُمُ المُفلِحُونَ {104} وَلاَ تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاختَلَفُوا مِن بَعدِ مَا جَاءهُمُ البَيِّنَاتُ وَأُولَـئِكَ لَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ {105} } [آل عمران: 102 - 105].
إنها آيات تُشَدٌّ إليها رحــال المصلحين الربانيين.. فتدبر! ألا ما أبعد واقعنا المنحط عن سمائها العالي الرفيع! فالدعوة إن لم تراع أصل الاعتصام بحبل الله، وعدم التفرق عنه، ولم تنضبط بقصد النجاة من النار، للداعي والمدعو سواءº كانت منحرفة عن (الخير)، وإن كانت في ظاهرها أمراً بمعروف ونهياً عن منكر، فلا قيمة لهذا إلا إذا صار إلى خير. فتدبر!
القاعدة الثالثة: في أن اتباع السنة تزكية وتعلماً وتحلماً هو مفتاح دعوة الخير:
لا سبيل إلى كل ما ذكر من بلاغات قرآنية إلا عن طريق اتباع المبلغ: محمد بن عبد الله، رسول الله إلى العالمين. هذه عقيدة، بل أصل من أصولها الكبرى، وكلي من كلياتها العظمى، لا استقامة لشيء من ذلك كله إلا به. وإن شئت فقل: هذا هو البلاغ القرآني الجامع، والضابط الكلي المانع. قال الله - عز وجل -: {مَّا أَفَاء اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِن أَهلِ القُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القُربَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَابنِ السَّبِيلِ كَي لَا يَكُونَ دُولَةً بَينَ الأَغنِيَاء مِنكُم وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُم عَنهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ العِقَابِ } [الحشــر: 7]، وقال - سبحانه -: { قُل إِن كُنتُم تُحِبٌّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحبِبكُمُ اللّهُ وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {31} قُل أَطِيعُوا اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوا فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبٌّ الكَافِرِينَ} [آل عمران: 31، 32]. والنصوص القطعية في هذا المعنى كثيرة، فهو أمر لا يماري فيه إلا جاهل بحقيقة الإسلام، أو من لا إيمان له به أصلاً.
فإذنº كل حديثنا ـ مما كان قبلُ ـ لا يمكن تحقيق مناطه، وتصور تطبيقه إلا من خلال السنة النبوية، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذا واضح وضوح الآيات: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد»(2). لا نقاش في هذا، وما هو بحاجة منا إلى تقرير أو تحرير، وإنما الحاجة في بيان طبيعة الاتباع للرسول - صلى الله عليه وسلم -: كيف؟ هذا الذي تخبط فيه كثير من الناس.
وهذا هو مربط الفرس، وبيت القصيد: كيف نتبع السنة؟ وكيف نتأسى بالرسول - صلى الله عليه وسلم -؟ ذلك أن كثيراً من المتدينين اليوم يسيء للسنة من حيث هو يزعم أنه متبع للسنة، ويحارب السنة من حيث هو يظن أنه ينافح عن السنة. وتلك أم المصائبº إذ يصنع الإنسان عكس ما يعتقد أنه يصنعه. لقد اقتصر كثير منهم في السنّة على منهج التعلم دون التزكية والتحلم. فضلوا وأضلوا.. تدبر قول الله - عز وجل -: {لَقَد مَنَّ اللّهُ عَلَى المُؤمِنِينَ إِذ بَعَثَ فِيهِم رَسُولاً مِّن أَنفُسِهِم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلالٍ, مٌّبِينٍ, } [آل عمران: 164]، وقوله - سبحانه وتعالى - : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِم وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبلُ لَفِي ضَلَالٍ, مٌّبِينٍ, } [الجمعة: 2]. فهو - صلى الله عليه وسلم - بتلاوته القرآن على المؤمنين، ومدارسته معهـمº يقـوم بعمليتين اثنتين لا واحدة: التزكية والتعليم، فاقرأ الآيتين وتدبر.. فعجباً، كيف فهم بعضهم من اتباع السنة والتأسي بها مجرد استظهار بعض الأحاديث دون الرحيل إلى أخلاقها، والتزكي بمقاصدها، والانتقال إلى منازلها؟!
أما التعليم: فهو للحلال والحرام وسائر أحكام القرآن وفقه السنة. وأما تعلم ما تحصل به الكفاية من ذلك لعبادة الله والالتزام بحدودهº فهو فرض عين على كل مسلم ومسلمة، في كل ما يهمه من شؤون العبادات والمعاملات.
وأما التزكية: فهي التطهير للنفس والتربية لها، {قَد أَفلَحَ مَن زَكَّاهَا {9} وَقَد خَابَ مَن دَسَّاهَا} [الشمس: 9، 10]، فالرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - كان حريصاً على تطهير صحابته من الأهواء، والارتقاء بهم عبر مدارج الإيمان إلى ما هو (أحسن عملاً)، من مثل قوله لعبد الله بن عمر: «نِعم الرجل عبد الله لو كان يصلي من الليل»(1).
وانظر ـ رحمك الله ـ كيف ذكر (التزكية) قبل (التعليم) في الآيتين، مع أنه لا تزكية بغير تعليم ابتداء، على ما ترجم له الإمام البخاري - رحمه الله - في كتاب العلم من صحيحه قال: «باب العلم قبل القول والعمل». وقد تقدم ذكر التعليم على التزكية ـ بناء على الأصل ـ في قوله - تعالى - من سورة البقرة: {رَبَّنَا وَابعَث فِيهِم رَسُولاً مِّنهُم يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكِتَابَ وَالحِكمَةَ وَيُزَكِّيهِم إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ } [البقرة: 129].
صحيح أن العطف بالواو في الآيات ـ كما هو في العربية ـ لا يفيد الترتيب، لكن التقديم والتأخير في البلاغة يفيد الأهميةº ومن هنا جاءت التزكية في الآيتين الأوليين مقدمة على التعليمº من باب ذكر المقاصد قبل الوسائلº لشرف الغاية وعلوها، وحتى لا يفتتن السائر بالوسيلة عن الغايةº فيضل عنها، ويكون من الخاسرين.
تقول لي: ومــا بال التحــلم؟ أقول: ذلك أنه - صلى الله عليه وسلم - ما عَلَّــم ولا زَكَّى إلا بحِلمº فهو الخاصية العظمى لمنهج التعليم والتز
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد