بسم الله الرحمن الرحيم
الدعاة الذين يذكرون الناس هم أولى الناس بالتذكرة، والذكرى تنفع المؤمنين كما تنفع الدعاة، هذه الكلمات قد تكون من قبيل الأبجديات المكررة والبديهيات المعادة، ولكن التكرار, وتفصيل القول طريقة قرآنية في الدعوة, لترسيخ المعاني, وتأكيد الرسالة, والاطمئنان إلى تحقيق أهدافها ووصولها إلى قلوب وعقول المعنيين بها.
والدعاة المعنيون بهذه الكلمات ليسوا هم عموم الدعاة، بل طائفة منهم مأمورون بالتفقه في الدعوة, وطرائقها, ووسائلها, وخطابها, وآدابهاº ليتحقق لهم الرشد المطلوب دائمًا, والمفقود أحيانًا فلا يكون الدعاة مرشدين إلا إذا كانوا راشدين، وطلب الرشد والسعي إليه ديدن الدعاة الراشدين المرشدين فنعلمه من فتية الكهف حين آووا إلى الكهف، وقالوا: \"ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا\" (10) (الكهف)، ونحن إذ ندخل إلى (كهف الدعوة) فإننا مطالبون بتحقيق الرشد، وعلى كلٍّ, فهذه مجرد اجتهادات قد تخطئ، وأرجو أن تصيب، وفى كلا الأمرين المجتهد مأجور.
وفى الآونة الأخيرة ترددت بعض الشعارات والمقولات حول ضرورة تطوير الخطاب الديني والدعوي، وجاء بعض هذه المقولات من أطراف معادية لا تريد الخير لهذه الدعوة, ولا لهذا الخطاب، والبعض أتى من مخلصين غيورين وهم كُثر، وأنا أفضل تعبير الترشيد على التطوير، وأرى أن المعنيّ بهذا الترشيد هم الدعاة أنفسهم، وليس الدعوة، فالدعوة راشدة بحمد الله.
وإذا كانت الأمة تتعرض لهجمات ومواجهات من أعدائها تستهدف العقائد والأوطان، كما تستهدف الشعوب, والثقافات, والثروات, فإن الأنظار تتجه صوب الدعاة باعتبارهم الطليعة, وقائد الركب, والرائد الذي لا يكذب أهله وأمته، فعن هؤلاء الدعاة تأخذ جماهير الأمة الرأي والرؤية فيما يمر بها من أحداث، كما تتعرف على الأحكام الشرعية, والواجبات الإسلامية تجاه هذه المواقف والأزمات.
وإذا كانت مهمة الدعاة لا تخرج عن كونها أمراً بمعروف, أو نهياً عن منكر, أو دعوة إلى خير، أو موعظة بليغة، فإنها كذلك تتراوح بين الشهادة, والتبشير, والإنذار, والدعوة \"يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا 45 وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا 46\" (الأحزاب)، وأي خطاب دعوي يخلو من هذه الأمور الأربعة: الشهادة على الحدث، والتبشير، والإنذار، والدعوة يكون قاصرًا عن مؤهلات الخطاب الدعوي الرسالي, أو صاحب الرسالة.
والدعاة إزاء هذه اللحظات التاريخية التي تمر بها أمتهم لا ينبغي أن يقتصر خطابهم على الشهادة على الحدث, ومعرفته فقط دون التحذير, والإنذار من مخاطر هذه الأحداث على واقع الأمة, ومستقبلها، كما لا يصح أن يغرق الدعاة في التحذير وتضخيم المخاطر والتحديات بما يدفع جمهور الأمة إلى التشاؤم, والخوف, والهلع، ومن ثم تظل الحاجة إلى البشارة, وبعث الأمل في النفوس ملحة, وضروريةº لتتكامل مفردات ومكونات الخطاب الدعوى الرشيد، وبذلك تتحقق الخيرية لخير الأمم، ويتحقق الثبات لها في مواجهة المحن والأزمات \"ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا 66\" (النساء).
وهكذا يصبح التوازن في خطاب الداعية, وطرحه مهمًا وضروريًاº لتحقيق البلاغ المبين، ويخطئ الدعاة حين يكونون واحدًا من ثلاثة:
1 ساسة وليسوا دعاة:
صحيح أن الداعية يسوس الناس بدعوته، وصحيح كذلك أن الدعاة لابد أن يستفيدوا بتحليلات وتقارير السياسيين، لكن يبقى هو الداعية المنوط به حمل الرسالة, وتوصيلها متوازنة دون إفراط أو تفريط أو تضخيم جانب على حساب آخر، فلا ينقلب الداعية محللاً سياسيًا, أو ملقيًا لبيانات سياسية فتلك ليست مهمته, ولا دوره، وإنما دوره أن يوظف الحدث ويستخدمه ضمن أشياء أخرى، فالحدث السياسي يوظفه الداعيةº لتربية مخاطبيه واستخراج الدروس والعبر المستفادة \"لقد كان في قصصهم عبرة\" (يوسف:111).
ومن ثم لا يغرق الداعية في سرد الحدث وتحليله والتعليق عليه إلا بالقدر الذي يوصل رسالته وخطابه المتوازن إلى من يتلقون هذه الرسالة عنه.
وحين يقال: إن الدعاة ليسوا ساسة فليس معنى ذلك أن السياسة ليست من صميم رسالتهم ودعوتهم، وإنما المعنى أن يظل الحدث السياسي ضمن حجمه وإطاره العام والكلي دون تضخيم أو إلغاء، فالناس تجفل كثيرًا من دعاة أو خطباء كل حديثهم عن السياسة والساسة لا يقرأون آية, أو حديثاً.
2 منعزلون عن الحدث (الداعية الأخرس):
هذا الفريق من الدعاة عكس الفريق السابق، فهؤلاء تراهم يخوضون في أحاديث لا تمت إلى واقع الناس ولا إلى أزماتهم ومشكلاتهم ولا إلى عالمهم الذي يعيشون فيه، وتراهم ينظرون إلى الحدث، خصوصًا السياسي نظر الخائف الوجل، وهذا يتناقض مع أخلاقيات المسلم، فضلاً عن الداعية، فالمسلمون والدعاة على رأسهم يجب أن يكونوا عالمين بزمانهم وواقعهم، وليس من المعقول, ولا من المقبول أن يكون حديث الخاصة والعامة والمثقفين والجماهير الحرب على العراق والهجمة على الإسلام والمسلمين، والداعية ما زال يتحدث في حديث آخر عن فقه الصلاة أو الوضوء وهذا ليس تقليلاً من هذه الأمور، بل هي من أبجديات وواجبات الدعاة الأولى.
لكن أن يَترك الدعاة أزمات الأمة ومواجهاتها فلن يُترك الخطيب أو الداعية يتحدث عن نواقض الوضوء، ناهيك عن فقه الصلاة والجهاد، فالمسلسل بدأ بعزل الدين عن واقع الناس بما فيه السياسة، وتم حصر الدعاة في المساجد، وحوصر الدعاة داخل مساجدهم في حدود ضيقة لا تتعدى ركنًا واحدًا من أركان الإسلام، والآن هناك دعوات حق أريد بها باطل حول تطوير وعولمة الخطاب الديني والدعوي تهدف إلى محاصرة الدعوة والدعاة تمهيدًا للقضاء عليهما، وهكذا نجد أن الداعية الذي لا يتألم لمصاب أمته وجراحات وطنه قد ترك أفضل الجهاد الذي هو كلمة حق عند سلطان جائر، ماذا يبقى للدعاة إن لم يقولوا كلمة الحق، وإن لم يكونوا كالمرأة التي قالت لعمر: \"اتق الله\"، وإن لم يقفوا من الطغاة والمتألهين موقف مؤمن آل فرعون؟!
وقد جاء في الحديث أن \"الساكت عن الحق شيطان أخرس\"، فالدعاة وظيفتهم الجهر بالحق لا السكوت عنه، والسكوت ليس من سمات الدعاة، وإنما الحديث والنطق، والدعاة حين يسكتون عن الحق يتركون الفرصة للشياطين الناطقين، فضلاً عن الخُرس، وما تكلم ونطق شيطان إلا لسكوت داعية أخرس أو \"شيطان أخرس\" بتعبير الحديث النبوي الشريف، وإذا كان الله - تعالى - يقول: \"الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله\" (الأحزاب:39)، ويقول أيضًا: \"هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله\" (الفتح:28)، فإن من مقتضيات حامل الرسالةº أن يبلغها, لا أن يسكت عنها، وأن تكون علنية ظاهرة ليتم الظهور للرسالة والدين والحق والهدى، وقد يكون السكوت بسبب عزلة الدعاة وبعدهم عن واقع أمتهم أو جهلهم به، أو بسبب خوف من الصدع بكلمة الحق، وهذا لا يليق بدعاة يفترض أنهم طليعة الأمة وقادتها وروادها. والداعية الأول خاطبه ربه بقول: \"يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس\" (المائدة67).
وقال له: \"فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين 94\" (الحجر)، وكان إذا غار مغير على المدينة, وفزع الناس وخرجوا وجدوا رسول الله أولهم قائلاً لهم: \"لن تُراعوا\"، \"وكانوا إذا حمي الوطيس اتقوا برسول الله\"، هكذا يكون الدعاة طليعة الأمة وفرسانها غير خائفين ولا مرتعشين، بل يبثون الطمأنينة في قلوب الناس، شعارهم \"لن تراعوا\".
3 متشائمون ومحبِّطون:
الأصل في الدعاة أنهم يحملون البشرى كما يحملون النذارة، والبشارة دائمًا مقدمة على التنفير \"بشرا ولا تنفرا، ويسرا ولا تعسرا\"، والداعية الحق هو الذي لا يقنط الناس من - رحمة الله -، بل يفتح لهم أبوابًا من التوبة والأمل في عفو الله، وينظر إلى جوانب الخير في الناس وما أكثرها وينميها ويقويها، ويبين للناس ما لهم من عظيم الأجر والمثوبة في الدنيا قبل الآخرة وفى معاشهم قبل معادهم جزاء ما يقدمونه لأنفسهم وأمتهم من خير ولو كان مثقال ذرة، وإذا وقعت أزمة للفرد أو للأمة يفتح الدعاة أبواب الأمل أمام الناس ويحدثونهم عن المبشرات لا عن المثبطات والمعوقات، وللدعاة في سيرة النبي الأسوة الحسنة في كيفية بعث الأمل في النفوس في الأوقات العصيبة، وفي أوقات الشدة، لكنه الأمل الإيجابي والتبشير المحرك للعمل، ولا يحسبن الدعاة أنهم بمفازة أو بمنأى من سنن الله في خلقه وكونه \"ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به\" (النساء:123)، وإذا ترك الدعاة الأمل والمبشرات، وكان جلة تركيزهم على الجوانب المظلمة فلن يروا الطريق الصحيح أمامهم، وإذا نظروا إلى الجانب السيئ في الناس فسوف يعتزلونهم، إن لم يتهموهم في عقائدهم وإسلامهم، حتى في هذا الجانب السيئ فإن الدعاة إذا نظروا إليه فيجب أن يكون دافعًا لهم لدعوتهم, وإنقاذهم من حفر المعاصي, وطرق الغواية، فهؤلاء هم مجتمع الدعوة، أما الخيرون فقد كفوا الدعاة بعض مؤنة دعوتهم وكفى الله الدعاة دعوتهم، وهناك نفرٌ من الدعاة ينظرون إلى الجوانب السلبية في المجتمع, وفى الناس نظرة غير صحيحةº لأنه إذا كانت وظيفة الدعاة مخاطبة أهل الخير والملتزمين فقط، فمن إذن يسعى لإنقاذ الناس من حفر النار ومهاوي المعصية؟ وكنتم على\" شفا حفرة من النار فأنقذكم منها\" (آل عمران:103) إذا لم تكن وظيفة الدعاة الذهاب إلى الطغاة، فما هي إذن وظيفتهم؟ \"إذهب إلى فرعون إنه طغى 17 فقل هل لك إلى أن تزكى 18 وأهديك إلى ربك فتخشى\" 19(النازعات).
وفى السياق نفسه فإن موجات اليأس والتشاؤم التي تنتاب بعض الدعاة, لا تؤهلهم لاستنهاض العزائم والهمم والأخذ بأيدي الناس إلى آفاق العمل الجاد والمثمر والصالح والنافع، لابد للدعاة من اتباع سنن حملة الرسالة في المزج بين التبشير والإنذار\" رسلا مبشرين ومنذرين\"(النساء:165)، ولابد من الجمع بين أسلوب \"إنا لمدركون 61 \"(الشعراء) وأسلوب \"إن معي ربي سيهدين 62\" (الشعراء) ولابد من الجمع بين منطق: \"لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا\" ومنطق: \"لا تحزن إن الله معنا\" (التوبة:40).
إن الإفراط أحيانًا في تضخيم صورة العدو وتهويلها قد تدفع بالناس إلى اليأس وترك العمل وانتظار المصير المحتوم غير دافعين قدَرًا بقدر، وكذلك التهوين من شأن الأعداء والغرور بالكثرة أو الغرور بأنا مسلمون مجرد مسلمين دون الأخذ بأسباب القوة المادية والإيمانية.. كل أولئك ينافي سنن الله في خلقه وكونه، فلابد من أن يضع الدعاة الأمور في نصابها ويعطوا كل شيء وزنه, وحجمه, وأهميته حتى يكونوا دعاة على بصيرة،كما أمر الله – تعالى -: \"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين 108\" (يوسف).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد