بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وبعد:
ومما يثار من الشبهات على الدعوة السلفية قول البعض عنها: الدعوة السلفية أو السلفيون يدعون امتلاك الحقيقة المطلقة، وأن الحق معهم مطلقاً، ويفسقون ويبدعون ويضللون ويكفرون من سواهم.
والجواب عنها من وجوه:
أولاً: مما لا شك فيه أن المعارف والمعلومات الذهنية والفكرية - عقدية أو غيرها - تنقسم إلى قسمين: حق وباطل، ومعروف ومنكر، ولا يمكن إنكار هذه الحقيقة، فالله حق وما عبد من دونه فهو باطل، والمتمسك بهذه الحقيقة له الحق الكامل أن يدعي امتلاك الحقيقة وأن من خالفه فيها أنه على باطل صراح، وكذلك القرآن الكريم حق وما عارضه فهو باطل، وكذلك محمد - صلى الله عليه وسلم - حق ومن ادعى النبوة بعده فهو على باطل، وهكذا يقال في كثير من القطعيات الدينية والدنيوية.
ثانياً: هذه الشبهة متلقفة من قبل الأحزاب العلمانية، وقد ذكرها الشيخ سعيد بن ناصر الغامدي في كتابه \" الانحراف العقدي في أدب الحداثة وفكرها \"(ج1/ص53)، حيث ذكر عدة أصول عقدية لهم منها زعمهم: أن ليس هناك حقائق مطلقة، وأنه يجب إعادة النظر في كل شيء، والقضاء على الفكر الثابت، والزعم بأن كل شيء متحول، وأن أي فكرة أو قضية لها سمة الثبوت فهي تخلف ومهانة.
ثالثاً: لماذا توجه هذه الشبهة إلى الدعوة السلفية والسلفيين فقط، وكل من ذهب إلى رأي أو مذهب يرى أن ما ذهب إليه هو الحقيقة، فالفرق الإسلامية كل طائفة تدعي أن ما اختارته من المذاهب والآراء هو الحق، وهم يعبرون عن ذلك دائماً فيقولون مثلاً: ومذهب أهل الحق، وقال أهل الحق، وذهب المحققون، والذي اختاره المحققون... إلى غير ذلك من العبارات التي تدل على أن صاحبها جازماً بما ذهب إليه، معتقداً بطلان ما خالفه.
بل حتى أهل الملل والأديان الأخرى يرون الأمر كذلك، فاليهود يرون أن ما هم عليه هو الحقيقة، والنصارى كذلك، والشيوعيون هم الذين قالوا بحتمية انتصار المذهب الشيوعي، والقوميون لا يزالون يرددون حتمية الحل القومي، والعلمانيون يرون أن الحقيقة التي لا ريب فيها هي العلمانية اللادينية، حتى رفعوا شعار (العلمانية هي الحل) في مقابل شعار (الإسلام هو الحل) الذي يرفعه الإسلاميون، وأمريكا وعملائها في المنطقة يرون حتمية الحل الديمقراطي، وأن الديمقراطية هي الخيار الوحيد والأفضل، وأنها إن كانت سيئة فغيرها أسوأ منها، وهذا تفضيل لهذا المنهج الغربي الوارد على الإسلام الذي ارتضاه الله لنا ديناً، وأتم علينا به النعمة، وأخبر أن من ابتغى غيره فإنه في الآخرة من الخاسرين.
رابعاً: نسأل من يروج هذه الشبهة ضد الدعوة السلفية فنقول له: هل لديك ميزان محدد منضبط يمكن من خلاله أن نعرف الحقيقة، وهل القرآن والسنة الصحيحة حقائق معترف بها لديك، وهل هناك حقائق في هذا الوجود أم أن الأمور كلها نسبية، فما يراه هذا حقاً قد يراه غيره باطلاً، ولا يوجد حقيقة عند أحد، وهل هناك حقائق مشتركة بين الناس اتفقوا عليها أم لا يوجد أي حقيقة، وهل قولك على السلفيين أنهم يدعون أنهم يدعون امتلاك الحقيقة هو أيضاً قول يدعي امتلاك الحقيقة أم هو وهم وبهت لا أساس له، فإن جزم بشيء من هذه الأمور وجهنا إليه هذا الاتهام الذي يتهم به الدعوة السلفية وهو ادعاء امتلاك الحقيقة، فما كان جوابه في هذا يمكن أن يكون جواباً لنا، وإن أنكر الحقائق فليس أهلاً للكلام معه.
خامساً: مثل هذه المقالة يصلح أن تقال بين أصحاب المنهج الحق الواحد المتفقين على أصول دينهم وثوابته، وإنما خلافاتهم فيما لا نص فيه، أو فيه نص مختلف في صحته، أو مختلف في دلالته لاحتماله لغة أو شرعاً معنى غير المعنى الذي ذهب إليه أحد المختلفين، أما بين المناهج المختلفة مثل: الإسلام، واليهودية، أو النصرانية، أو غيرهما من الملل كالعلمانية، وكذلك منهج أهل السنة ومنهج من خالفهم من أصحاب المقالات والبدع من الروافض والخوارج والمشبهة والمعطلة والباطنية والدروز، فاستعمال مثل هذه العبارة تلبيس وتشكيك في مسلمات أهل الإسلام، واعتقاد أهل السنة، وفهمهم للنصوص، وتجويز أن يكون الحق عند غيرهم، وأن يكونوا على خطأ، وهذا ممنوع.
سادساً: هناك أيضاً محذور آخر يترتب على هذه المقالة ألا وهو ضعف موقف الإسلاميين إذا سلموا بها فيما بينهم وبين العلمانيين من الخلاف، حيث يستطيل عليهم العلمانيون حين يواجهونهم بها قائلين: لماذا تحتكرون الحقيقة؟ لماذا تدعون امتلاك الحقيقة؟ نحن نرى أن النص مقدس، ولكن فهمكم ليس مقدساً، وليس لكم أن تدعوا احتكار الحقيقة!! فتتعرض المسلمات الدينية للاهتزاز والتشكيك، وتعارض النصوص بالأهواء، وهذه مفسدة واضحة.
سابعاً: إن منع الإنسان من أن يعتقد ما يراه حقاً جازماً بذلك، ودعوته إلى أن يشك فيما يعتقده حقيقة، وأن الآراء والمذاهب الأخرى هي أيضاً حق، هذا تكليف له بما لا يطاق، لأنه جمع بين الشيء وضده، وإلزام له بخلاف قناعته الفكرية، وأنه يجب عليه أن يعتقد أن ما ذهب إليه هو حق وهو باطل أيضاً في نفس الوقت، لأن غيره يراه أنه باطل، ويجب عليه أن لا يدعي امتلاك الحقيقة وكفى بهذا سفسطة ولعباً بالعقول، وسخرية بها.
ثامناً: ليست المشكلة أن أعتقد في مسألة - مما يجوز فيه الخلاف لاختلاف وجهات النظر - خلاف ما ذهب إليه غيري، وأن أجزم بفساد رأيه، لأن هذا أمر لا مفر منه، ولا يستطيع الناس كلهم أن يتجاوزوه، وإلا لفسدت خصائصهم، وما تتميز به شخصية كل واحد منهم، وسوف يكونون نسخة واحدة من الببغاوات التي تكرر نفس المقال، وتردد نفس الشعار، ولكن المشكلة في رأيي هي في تجاوز أحد المختلفين لحدود المسألة المختلف فيها، وحكمها، ونوع أدلتها، وقوة الحجة عند المخالف، وسلوك طريق التعصب الذي يدفع إلى تجاهل قوة حجته، والسلوك العصبي الذي يسود عند الاختلاف، والمجادلة في الحق بعد تبينه بنوع من الشغب والمكابرة، وهذه الحالة تؤدي إلى أمرين اثنين كلاهما قبيح لا يليق بأحد أن يتصف بشيء منهما:
أحدهما: تكبير القضية المختلف فيها، وهي في الحقيقة صغيرة.
والآخر: تصغير القضية المختلف فيها وهي في الحقيقة كبيرة، ثم يترتب على ذلك إصدار الأحكام الجائرة التي لا تمثل الحقيقة، ولا تعبر عن طبائع الأمور كما هي.
تاسعاً: أما قضية التكفير لمن كفره الله ورسوله من المخالفين المرتكبين لما يوجب الكفر فهو حقيقة قطعية في القرآن والسنة لا يجوز التنازل عنها، وإن كان يجب التثبت في تنزيل الحكم لمن كان حاله يفرض ذلك، كأن يكون أصلاً من المسلمين فارتكب ما يوجب ردته فلابد حينئذ من توفر الشروط وانتفاء الموانع، أما من كان أصله الكفر مثل اليهود والنصارى فلا يجوز التوقف في تكفيرهم، ومن توقف فقد كذَّب بالقطعي من القرآن والسنة لفظاً ومعنى، وسيلحقه ولا ريب معرة مخالفة الحكم القطعي، ولا يلومن إلا نفسه.
عاشراً: أما دعوى أن السلفية تكفر المخالف بما لا يوجب كفره شرعاً فتهمة باطلة، وأما تبديع المخالف بما ارتكبه من البدع فشيء متبادل عند كل الفرق، إذ كل الفرق المختلفة ترى أن ما أتت به الفرقة الأخرى يعتبر بدعة، فلماذا الإنكار على السلفيين فقط، فإن كانت البدعة غير مكفرة فيجب إنكارها بدون التورط في التكفير، لأن البدعة لا يجوز السكوت عنها عند الجميع، والعبرة بمن الكتاب والسنة في جانبه، ويشهدان له، وعند الله تجتمع الخصوم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد