بسم الله الرحمن الرحيم
نظرية المقاصد التي بلورها الإمام الشاطبي - رحمه الله - في القرن السابع الهجري بعد تراكمات نظرية في المذهب المالكي مرورا باجتهادات متميزة للإمام العز بن عبدالسلام، مرورا بالإمام أبي المعالي الجويني ثم الإمام الغزالي، لم تأخذ حظها من الذيوع والانتشار في اجتهادات فقهاء القرون المتقدمة، ولا يصعب علينا القول إن إيقاع الحياة في تلك القرون السالفة لم يكن يتطلب إعمال وإقحام آليات جديدة في إطار الاجتهادات الشرعية، ومن ثم غابت النظرية عن الحضور والتفعيل، والتأسيس على مدار ستة قرون، وتكاد تكون الدراسات التي طالت نظرية المقاصد - معدودة على أصابع اليد - حتى بزوغ ما يسمى بالإصلاحية الإسلامية أو النهضة العربية، وبدأ المصلحون والمفكرون استدعاء الرؤية المقاصدية من أمثال محمد الطاهور بن عاشور، وعلال الفاسي، والإمام محمد عبده، ورشيد رضا، ويخيل للقارئ لنتاج تلك المرحلة أنهم لا يرون في النظرية المقاصدية آلية اجتهادية أو دليلا علميا يستندون إليه فحسب، ولكنها كانت أشبه برؤية الفكر الإسلامي الإصلاحي الجديدة للعالم الحديث،
ويمكننا القول إن التغيرات السياسية والجغرافية والثقافية والعلمية التي طالت العالم الحديث في القرنين التاسع عشر والعشرين، كانت بحاجة إلى الاستيعاب والهضم من الفكر الإسلامي، نظرا لتجدد أسئلة الوعي والوجود على العقل المسلم، ومن الصعوبة بمكان التعويل على النتاج الاجتهادي القديم بحسبانه كان يجيب على أسئلة زمانه ومكانه، ومن ثم كان الفكر الإسلامي الحديث بحاجة ماسة إلى رؤية كلية شاملة تمكنه من التواصل مع العالم الحديث.
فوجد الإصلاحيون والمفكرون النهضويون في تلك المرحلة ضالتهم وبغيتهم في نظرية المقاصد الشرعية للإمام الشاطبي، لذلك قررها الإمام محمد عبده على طلبة الأزهر، وألف الشيخ محمد الطاهور بن عاشور سفره الموسوم مقاصد الشريعة الإسلامية، وألف علال الفاسي كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، وانطلق الإمام محمد رشيد رضا في استدماج مكتسبات الحياة الحديثة، والإنسان المعاصر تحت مظلة المصالح والمقاصد الشرعية، بحسبان أن هذه المستجدات تقع في منطقة الفراغ التشريعي، والتي يمكن ملؤها بما يحقق المصالح للأمة والدولة والإنسان.
وحصيلة الحال أن الإصلاحيين والنهضويين ارتأوا في نظرية المقاصد كما ذكرنا سلفا رؤية للعالم والوجود والوعي، بوصفها تتحرك في مساحات شاسعة، فمن مقاصد الخلق: استخلاف الإنسان في هذه الأرض، وعمارته لها، وتسخير الخالق كل ما في هذا الكون لتحقيق الغرض، وإصلاح هذه الأرض بنظام التعايش، وحفظ الحقوق للخالق والمخلوق، واستثمار الأرض، وإصلاح البيئة، وتنمية الإنسان، ودفع الجهل، ومنع الظلم، والحد من الاستبداد، إلى غير ذلك من المقاصد، ومن ثم لا يمكن للفكر الإسلامي استيعاب العالم، أو رؤيته إلا من خلال النظرية المقاصدية، حتى يتمكن من الإجابة على أسئلة الوعي والوجود،
المفارقة أن فكر الحركات الإسلامية المعاصرة - استبعد النظرية المقاصدية في رؤيته للعالم في الجملة، فمعظم المؤلفات والتنظيرات والاجتهادات التي طالت فكر الجماعات الإسلامية - نظرت إلى العالم من خلال النصوص الشرعية من الكتاب والسنة وفهم العلماء المتقدمين من السلف والخلف فقط لا غير، لذلك لا غرابة أن نجد الانفصام بين فكر هذه الجماعات، والعالم الحديث، يستثني من ذلك المعهد العالمي للفكر الإسلامي، والذي أسسته مجموعة من الأكاديميين - يهدف إلى تأصيل العلوم الاجتماعية إسلاميا من خلال رؤية مقاصدية كتجسير للعلاقة بين الفكر الإسلامي والعالم الحديث،
والحال أن نتاج فكر الجماعات الإسلامية لا ينظر للرؤية المقاصدية الشرعية إلا كآلية اجتهادية يمكن إعمالها في المسائل والقضايا والنوازل المعاصرة، وعلى أكثر تقدير في فقه العمل الدعوي، أما الرؤية للعالم فالغالب أن النظرية المقاصدية مستبعدة.
ولسنا نغالي إذا ما قلنا إن أحد أسباب فتاوى القتل والاستباحة والتفجير والتدمير التي تقوم بها بعض الجماعات المنتسبة إلى الإسلام، هو غياب الرؤية المقاصدية للعالم، ومن ثم لا تقيم وزنا كبيرا للإنسان، والمال، والبيئة، والمنجزات، والمكتسبات، ومصالح الناس، والمفاسد المتوقعة من جراء أعمالها التخريبية.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد