بسم الله الرحمن الرحيم
اعتاد أصحاب الهم الثقافي على تقسيم المجتمع إلى عامة وخاصة أو نخب وجماهير، ويقصدون بالخاصة أهل العلم والفكر والثقافة، ومن عداهم ممن ليس له عناية بالفكر والعلم عامة. والوضع الطبيعي أن تكون القيادة الفكرية والثقافية للمجتمع بيد الخاصة، فهم المرجع للمجتمع في اختيار الأصلح والأنفع لهمº فهم الذين يصوغون الأفكار ويطرحون المشاريع الحضارية، و لا بد لأي فكرة وافدة أن تمر من خلال مرشحاتهم الفكرية فلا ينفذ منها للمجتمع إلا ما يختارونه، ويرونه الأنفع.
أما العامة فعليهم إتباع الخاصة آلياً وتبني ما يقولون، لأنهم أعرف بما يصلح لهم وينفعهمº فهم أطباء العلم، وصيادلة الثقافة، ومهندسو الحضارة. وبناء على هذا فالعامة غير صالحين لتوجيه الخطاب المحمل بالأفكار والنظرياتº فهم يفقدون القاعدة العقلية والثقافية لفهم الخطاب والرؤية النقدية لتمييزه وتنقيحهº فالأمور مختلطة متداخلة عندهم فلا يفرقون بين العقل والعاطفة، وبين الرؤى الفكرية وأحاديث المجالس والمقاهي، وبين ما يكون بناء وما يكون ترفاً، فلا ينبغي شغل الأوقات وتسو يد الأوراق بخطاب من لا يفهم الخطاب ولا يتفاعل معه.
وإنما يوجه الخطاب لأهل الخطاب.. للخاصة، للنخب الفكرية الثقافية القادرة على فهمه والتفاعل معه، وينبغي أن يكون خطاباً عقلانياً منطقياً بأرقى أسلوب وأدق عبارة بعيداً عن السطحية واستثارة العواطف، والخلط بين القضايا، فيه تأسيس للمناهج وصياغة للأفكار، مع تركيز على القضايا الكبرى والمفاهيم الأساسية للأمة والمشروعات الحضارية، ذو رؤية نقدية مجلية لعوار الأفكار والعادات، يتضمن مساحة للإضافة أو النقد أو التعليق من قبل هؤلاء النخبة، فهم لا يطلب منهم مجرد التسليم والإذعان المحض، وإلا فلا فرق بينهم وبين العوام في شيء، بل المطلوب منهم المشاركة والإضافة والنقد.
وقد يكون ما سبق من الطرح مقنعاً ومنطقياً لدى البعضº إذا كيف نوجه الخطاب ونعرض الرؤى الفكرية لمن لا يفهم ولا يكون لفهمه -إن فهم- أثر في البناء الحضاري والعمل الفكري.
ولكن عندما نتأمل في حقيقة هذا الكلام بنظرة أكثر عمقاً وشمولية ومعرفة بالواقع، ثم نتساءل عن الفائدة المرجوة من الخطابات النخبوية والأطروحات الخصوصيةº ستكون الإجابة معروفة مسبقاً: ألا وهي للنهوض بالمجتمع حضارياً وفكرياً وإزالة عوامل التخلف والجهل وغير ذلك زعموا.
فمحصلة الخطاب الخاص في النهاية لأجل العامة و في مصلحتهم. لكن إذا أغفلوا من الخطاب كيف يرجى منهم التفاعل معه وتبني أفكاره وتفعيلها في واقع حياتهم، إذ هذه الأفكار بهذا اللون من الخطاب ستظل حبيسة عقول من يسمون بالنخبة تتنقل بين عقولهم من خلال كتاباتهم الخاصة لبعضهم، وكأنها رسائل سرية تستخدم فيها شفرات خاصة وليست للنشر.
ثم إنا نجد أغلب من ينادي بالخطاب الخاص النخبوي، ويتعالى على العوام هم أصحاب الأفكار الضالة قديماً وحديثًا، ولعل سبب نخبوية خطابهم أن مشروعهم يتضمن إفساد العقول والأفكار، والعامة بفطرتهم السليمة يرفضون هذا الفساد، مع ما تتضمن أفكارهم الكثير من الكفريات أو الضلالات ويخافون على أنفسهم فاتخذوا الرمزية والغموض والتمويه أسلوباً لنشر أفكارهم، وللتهرب من نتائجها عند محاكمتهم عليها، حتى إن القارئ ربما يبقى الساعات حتى يفهم مقالاً قصيراً لبعضهم.
ويتساءل الأستاذ جمال سلطان عما بقي من آثار لأصحاب الخطاب النخبوي الذي تميزت به بعض الفرق الضالة قديماً، ومن سموا أنفسهم برجالات التنوير حديثاًº هؤلاء الذين كان خطابهم خصوصياً ومرت عليهم فترات ملأوا الدنيا صخباً وضجيجاً، يخيل للسامع أو القارئ أنهم اكتسحوا المجتمعات اكتساحاً مطلقاًº فإذا بدعوتهم وأفكارهم لا يتبناها إلا قلة من شذاذ المجتمع وسقطه، لا يعدون على رؤوس الأصابع ثم انتهت بموتهم واندثرت باندثارهم، ولا تذكر إن ذكرت إلا كتاريخ. ولو لم تكن لهم قبضة وسيطرة على وسائل الإعلام لعاشوا وماتوا من غير أن يسمع بهم أحد، ولم يعد الآن لهم أي حضور إلا محاولات يائسة من أتباعهم لأحياء ذكراهم وتلميعهم وتضخيمهم من غير جدوى. وهذا يقودنا إلى معرفة أحد أهم أسباب الانتشار المذهل للصحوة الإسلامية المباركة بإذن الله - تعالى -.
فهي لم تتكئ على خطاب الخاصة، ولم تراهن عليه، إنما كان خطابها عاماً يناسب جميع فئات المجتمع باختلاف ثقافاتهم وأعمارهم، كان خطاباً واضحاً مفهوماً قريباً من عقولهم محبباً إلى قلوبهم خالياً من التحذلق في الكلام والتكلف في العبارةº فسارت مسير الشمس لم يبق جزء من الأرض إلا استنار بضوئها وناله نصيب من دفئها وبهره حسنها، إلا أصحاب القلوب المغلفة بالباطل الذي منع الحق أن يصل إليها، ومنع الغل والحقد أن يخرج منهاº فرموا الصحوة بما هي بريئة منه لأنها كشفت حقدهم وعداءهم لدينهم ومجتمعهم وزاد تهم عزلة على عزلتهم وغربة على غربتهم.. اتهموا الصحوة بالسطحية والجهل، وعدم عقلانية خطابها وافتقادها للمشروعات الحضارية واقتصارها على التكفير والتبديع وعدم إيجاد البديل، والواقع يكذبهم والناس يكذبونهم، ومما يتعجب منه أن ترى كثيراً من الشباب لا ُيرى عليه أثر للتدين، وربما راهن أهل العلمنة والنفاق على أمثاله إلا أنه حينما تعرض عليه أفكارهم ينبذها نبذاً شديداً، وتجده في المقابل يكن للعلماء والدعاة كل حب واحترام، أما المشاريع الحضارية التي يتشدقون بها أين هي في أرض الواقع إنها في حقيقتها ومجموعها دعوة لنبذ الدين والارتماء الكامل في أحضان أعداء الله وأحب هنا أن أقف وقفات:
1- الإسلام لا ينبغي أن يختصر في مشروع حضاري أو نظرية اقتصادية أو سياسيةº إنه أعم من ذلك وأشمل.. إنه عقيدة وعبادة وأخلاق ومعاملة.
عقيدة ترتكز على أركان يجب الإيمان بها كما أمر الله، وعلى منهج رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، تنطلق منها نظرة شمولية للكون والحياة والإنسان، يصدقها العملº وهو كل عبادة أمَرَ الله بها فتودي كما أمر الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم -، شعارها الخلق الحسن، يتفرع عنها حسن التعامل مع الخلـق وانضباطه بالضوابط الشرعية في سائر المعاملات الحياتية من بيع وشراء وزواج وغير ذلك..
فتبليغ الدين والدعوة إليه لابد أن تكون شمولية كشمولية الدين، ولا أعني أن نهمل التدرج أو الوسائل المقنعة، لكن لا نقتصر على جزئية وندعو إليها على أنها تمثل الإسلام بكافة أنحائهº فربما يقتنع المدعو للإسلام إذا عرض له جانب واحد من الإسلام مقتصراً عليه، كنظرية إسلامية في الاقتصاد أو الاجتماع، ويتبنى الإسلام فلسفة لا دينا، وربما أفسد أكثر مما أصلح، لكن لا ما نع من استخدام الوسيلة المناسبة للمخاطب على ألا يقتصر عليهاº بل تكون خطوة لما بعدها.
2- إن النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو القدوة عبادة ودعوة ومنهجاً ما كان خطابه نخبويًّا، إنما كان عامًا لجميع الفئاتº بل إن الله - تعالى - عاتبه على إهمال أحد العامة لما أراد أن يتعلم وانشغل عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - بخطاب بعــض سادات قـريش فـقال - تعالى -: (عبس وتولى * أن جاءه الأعمى * وما يدريك لعله يزكى * أو يذكر فتنفعه الذكرى)º فبهذا الرجل وأمثاله من العامة المستضعفين -الذين لم يكن يؤبه بهم- قامت الدولة والحضارة الإسلامية، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يتولى بنفسه تعليم أبسط قواعد الدين لكل من سأله من غير تمييز أو انتقاء.
3- لا يقصد إغفال الخطاب الخاص مطلقاًº بل لا بد من نوع من التوازن والتكامل في جميع خطاباتنا و أطروحاتنا، وألا نضخم جانبًا على حساب جانبº فيصبح الورم السرطاني في العضو ربما كان بتره خيرًا من إبقاء ضرره ليتسرب لبقية الأعضاء، والعمدة في معرفة التوازن والتكامل هو الكتاب والسنة وطريقة الراسخين في العلم، والخطاب النخبوي الإسلامي على نوعين:
أحدهما: الخطاب العلمي الدقيقº بحيث يكون التأليف أو التدريس لفئةِ العلماء.
والثاني: الخطاب الفكري العميق المتعلق بالقضايا المطروحة على ساحة الفكر، فتقدم فيه أطروحات تتناسب مع عقليات النخبة وبمنظور الإسلام وتأصيل شرعي، وقد أُغفل هذا الجانب كثيراً في خطاب الصحوة اكتفاء بالنقد الشامل أو الفتوى المؤثرة، ومع تغير الأحوال وتقلب الزمان، واحتياجنا للأطروحات الدقيقةº وجدنا أن أهل العلمنة والعصرنة قد قدموا أطروحات كثيرة ودراسات عميقة في كثير من الجوانب، ومما يؤسى له انكباب بعض شباب الصحوة عليها بعد أن شبوا عن الطوق واحتاجوا إلى خطاب يناسبهم، فلم يجدوا إلا ما عند هؤلاء القوم، وظن بعضهم مصداقية هذه الدراسات وإنصاف أصحابها، والتبس الأمر عندهم وما علموا أنهم صنعوا حلياً من التراب، بينما حفظ أهل الصحوة ذهبهم وجواهرهم كمادة خام ظناً منهم بأن هذا يكفي في المواجهة، ومن أراد أن يلاحظ إقبال شباب الصحوة على كتب أولئك القوم فليقارن بين معارض الكتاب قبل سنوات ومعارض الكتاب هذه الأيام، فقد كانت المكتبات الشرعية والتراثية مزدحمة، والطلب عليها أكثر من طاقتها، وأكثر الكتب تنفذ نسخاتها بأسرع مما نتصور، وكانت كتب أهل العلمنة والعصرنة كئيبة مظلمة لا يزورها إلا قلة منهم. وكأن الحال انقلبº فأصبح إقبال الشباب على كتب هؤلاء منقطع النظير وخف إقبالهم بشكل ملحوظ على كتب التراث!. لعل من أكبر الأسباب عدم وجود دراسات جادة تروي غليلهم وتجيب عن تساؤلاتهم وتحترم عقولهم، ولكن أعود وأكرر لابد من التوازن.
4- أصبح كالعرف اقتسام الخطاب الإسلامي بين العلماء والدعاة، فالعلماء في الغالب مقتصرون على المؤلفات والدروس العلمية، بينما الدعاة وهم من لا يملكون الآلة العلمية يتوجهون للوعظ ومخاطبة العوام، وهذا فيه من المحاذير الشيء الكثير، فترك العلماء الساحة لبعض الجُهّال قد يؤدي لترسيخ مفاهيم مغلوطة في أذهان العامة بسبب جهل هؤلاء، وقد يصعب أو يستحيل انتزاعها بعد ذلكº لأن الجاهل يعتمد اعتمادا كبيراً في خطابه على إثارة المشاعر لدى العامة، وكثيراً ما يغرق هؤلاء في هذا الأمر، وقد يستحدثوا طرقاً جديدة للحفاظ على انفعال العامة معهم، ولعل أشهر طرقهم القَصص المثير للمشاعر، وقد يقعون في الكذب، وأقل الأحوال عدم التثبت فيما ينقلونه عدو، لذلك حذر العلماء من أحاديث القُصَّاص، كذلك المنامات وتعبيرها والاعتماد عليها في فهم واقع الناس، ولقد شكا الإمام ابن الجوزي في زمانه هذا الحال، يقول: كان الوعاظ في قديم الزمان علماء وفقهاء، ثم خست هذه الصناعة فتعرض لها الجهّال.
على أني لا أعممº فهناك من طلبة العلم الكبار من تصدى للخطاب الوعظي ونفع الله به.
5- لا ينبغي أن يقتصر الخطاب الوعظي للعوام على مجرد الرقائقº بل لا بد من مخاطبتهم بالقضايا الأساسية في عقيدتهم وعبادتهم ومحاولة تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة لديهم، خاصة ونحن في زمن أصبحت كثير من القضايا الخاصة تعلن وتناقش علناً فيستمع إليها العوام فيقعون في حيرة من أمرهم.
6- إن أكبر دليل على نجاح أية دعوة أن تصل إلى عقول العوام وحياتهم تصبح أفكارها عرفاً بينهم، وأن يصبح السلوك والأخلاق الذي تدعو إليه عادة لديهم يستنكر ما عداه.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد